إعلان السيد نصر الله عديد مقاتلي حزب الله.. رسالة إلى من؟
للدَّلالة على أهمية ما كشفه الأمين العام لحزب الله، تكفي الإشارة إلى تقديرات نشرتها الصحافة الإسرائيلية، وفيها أن عدد مقاتلي الحزب ارتفع من 20 ألف مقاتل عام 2006 إلى 45 ألفاً عام 2016.
لم يلفظ السيد حسن نصر الله، في خطابه الأخير، اسم سمير جعجع، على الرغم من أن الخطاب تمحور، بصورة أساسية، حول دور الأخير ومسؤوليته عن مجزرة كمين الطيونة. إشارة توقّف عندها الإعلام الإسرائيلي، الذي رأى بعضُ محلّليه أن خطاب الأمس يُعَدّ من أهم خطابات الأمين العام لحزب الله في السنوات الأخيرة.
من منظور علم الخطاب، سياسياً واجتماعياً، يمثّل إغفال ذكر اسم الخصم تقليلاً من قَدْره. وعلى الرغم من ذلك، فإنه كان لافتاً أن يتوجَّه السيد نصر الله إلى رئيس حزب القوات، من دون أن يسمّيه، ويتحدّث عن عديد حزب الله. 100 ألف مقاتل لبناني مدجّجٍ بالسلاح عماد القوة العسكرية النظامية في حزب الله. إعلان يَرِد للمرة الأولى بعد أن كان يقبع في السابق داخل صندوق أسرار الحزب، الذي احترف بحُكم تجربته المديدة في المقاومة متى يعلن المعلومات، وبأيّ قدر.
لتوكيد أهمية الرقم الذي ذُكر، تكفي الإشارة إلى تقرير أوردته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عام 2016، وتُقدّر فيه آنذاك ارتفاع عديد حزب الله من نحو 20 ألف مقاتل عام 2006 إلى 45 ألفاً وقت نشر التقرير، بالإضافة إلى أن "21 ألفاً منهم يخدمون بصورة منتظمة،ـ بينما الباقي احتياط".
لا شكّ في أن كشف عديد المقاومة في لبنان، أو جانب منه، له مفاعيل وأبعاد تتعدّى الساحة اللبنانية، والأطراف اللبنانيين. مسألة عديد المقاومة هي على جانب كبير من الأهمية والخطورة. وما يعزّز ذلك تصريحُ السيد نصر الله نفسه، منذ أقل من ثلاثة أشهر، ومفاده أن "العديد بالنسبة إلينا أهم من العتاد".
في الشكل، أتى الإعلان غير المسبوق بشأن عدد المقاتلين ضمن صفوف حزب الله في خضم اشتباك داخلي، ولو أن بُعده الخارجي واضح في سياق اشتباك إقليمي أوسع. في الشكل أيضاً، أهمية المعلومة وقيمتها لا تتلاءَمان مع الشخصية المعنية والمُخاطَبة، إذا أخذنا فحوى الخطاب مِعياراً حُكْمياً. فبالإضافة إلى إغفال ذكر اسم سمير جعجع، جرى تصويره في الخطاب على أنه متعهّد دماء لا أكثر، وأداةٌ غبّ الطلب في خدمة مشاريع خارجية، هدفها إحداث فتنة داخلية، والزجّ بحزب الله فيها.
إذا أردنا الخروج بصورة كاريكاتيرية بشأن أبعاد الخطاب وأحجام اللاعبين في طياته، يمكن تصوير حزب القوات اللبنانية ممثَّلاً بزاروب في لبنان، بينما ينتشر حزب الله في أوتوسترادات المنطقة بأكملها.
لا شكّ في أن إعلان عديد حزب الله يشكّل حدثاً توثيقياً ومرجعياً للمستقبل. سبق أن انخرطت التقديرات الإسرائيلية والأميركية، على مدى سنوات، في سبيل الإحاطة بهذه المعلومة التي لها أهمية بالغة في المواجهة الكبيرة والاستراتيجية، والتي يخوضها محور المقاومة ضد المشروع الأميركي والإسرائيلي.
لماذا رمى السيّد نصر الله، إذاً، هذه المعلومة في إطار اشتباك داخلي، وفي وجه شخصية محدودة الشأن، ولا يمكن في أي حال مقارنتها بالمواجهة الشاملة على مستوى المنطقة، وبما يمثّله حزب الله من رأس حربة وقوة طليعية في هذه المواجهة؟
أولاً، بسبب خطورة الحدث الذي قرأه حزب الله باعتباره حدثاً مفصلياً بالغ الخطورة.
ثانياً، يأتي الإعلان في ظل ما أعلنه السيد نصر الله بشأن "اللَّغَم الأخير" الذي يحاول الأميركي تفجيره في لبنان، والذي يتمثّل بإحداث فتنة ومواجهة بين الجيش اللبناني والمقاومة.
ثالثاً، ربما تكون هناك أطراف لبنانية أخرى حاولت في السابق، وقد تُضمر محاولة اللعب مجدَّداً حينما تسنح الظروف، ومستعدة للدخول في لعبة الدم الداخلية خدمةً لمشاريع خارجية. أيضاً قد تدغدغ لغة الحرب والهويات العصبية مُخيلات ومشاعر بعض المناصرين أو المُضلَّلين في بيئات طائفية معينة، نتيجة محدودية وعيه أو نتيجة التأثر بالضخ الإعلامي والخطابات التقسيمية.
إذاً، هي رسالة ردعية لأطراف لبنانية داخلية، إذا ما زيّنت لها أوهامها أن معركة توريط حزب الله وإشغاله في الداخل قد يكون لها أيُّ أُفق عسكري أو سياسي. مع هذا العديد، في إمكان حزب الله، نظرياً وعسكرياً، أن يربح أي معركة في أي بقعة جغرافية في لبنان، وضد أي طرف مهما صغر أو كبر حجمه. معركة كهذه لن تكون أكثر صعوبة من المعارك التي خاضها ضد التكفيريين.
صحيح أن الحزب لا يتمنى ذلك ولا يسعى إليه ولا مصلحة له فيه، وسوف يتضرّر من التورط في أي حركة عسكرية في الداخل، لكن، بالنسبة إلى أعدائه وخصومه، فإن تكلفة هذا التوريط ستكون نهاية مستقبلهم السياسي في حال الإقدام على أيّ مغامرة في هذا الاتجاه.
رابعاً، يُستبعَد أن تكون الرسالة موجَّهة إلى حزب القوات اللبنانية حصراً، عملاً بالمثل اللبناني الدارج "عم حاكيكي يا كنّة لتسمعي يا جارة". المقصود هنا هو الطرف الأميركي والطرف الإسرائيلي. فإذا كان هناك رهان على خطة من أجل إشغال حزب الله في الداخل تمهيداً للانقضاض عليه من الخارج، فإن هذا الإعلان من طرف السيد نصر الله يشير إلى أن حزب الله، في عديده، قادر على خوض معارك في جبهات عدة، في الوقت نفسه، ومن دون أن يؤثر ذلك في أدائه وفعاليته في مواجهة أي حرب مُفترَضة ضد "إسرائيل". حرب قد تجد "تل أبيب" أو واشنطن، أن ظروفها ستكون مُهيَّأة أكثر إذا ما سبقها توريط حزب الله عسكرياً ومعنوياً في الداخل، ويتم التمهيد لها عبر تصوير المقاومة في الإعلام المُوجَّه على أنها ميليشيا طائفية فاقدة للشرعية ومعزولة في الداخل، الأمر الذي يسبغ "الشرعية" على أي عدوان يُشَنّ على حزب الله من الخارج.
أهمية العديد لدى المقاومة مسألة سبق أن تطرّق إليها السيّد نصر الله في آب/أغسطس الماضي، إذ قال، بمناسبة مرور أسبوع على وفاة أحد القادة العسكريين في "حزب الله"، عباس اليتامى، إن كشف العدد الحقيقي لعناصر الحزب سيثير الرعب لدى كثيرين، لكنّه قرّر آنذاك الاكتفاء بهذا الحد.
لكن السيد نصر الله لم يتحدث في خطابه الأخير عن كل العديد، إذ إن الرقم الذي ذكره لم يشمل القوات الرديفة، ولم يتضمن المقاتلين غير اللبنانيين (إشارة لافتة في خطاب الأمس)، الأمر الذي تلتقطه حكماً رادارات الأميركي والإسرائيلي؛ الطرفين اللذين وصلت إليهما الرسالة، وهما أكثر من يُجيد تفكيكها وفهمها.
خلاصة القول إنها رسالة ردعية موجَّهة إلى الخارج أكثر مما هي موجَّهة إلى الداخل، وتحديداً إلى المايسترو الأميركي. ويُستبعَد أن يكون قرار إخراجها إلى حيّز الضوء ناجماً عن رد فعل انفعالي، وإنما عن نية مقصودة ومدروسة وصلت مختومةً بتحذير أحمر.
بعد هذا التحذير، ربما يتعيّن على الأميركيين أن يدرسوا خياراتهم جيداً في لبنان، وهم الطرف الأكثر قدرة على تفكيك شيفرة هذه الرسالة. كما بات على الإسرائيليين أن يحدّثوا معطياتهم بشأن "أضخم قوة عسكرية خارج إطار الجيوش النظامية في العالم"، كما وصف مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية قدرات "حزب الله"؛ تلك القدرات العسكرية التي قالت عنها مجلة "فورين أفييرز" إنها تفوق ما يعرفه العالم عن الحزب.