"إسرائيل" تفقد زمام المبادرة

العدو الإسرائيلي لم يعد يتمتع بميزات متعدّدة لطالما افتخر بها، وسوَّقها أمام العالم، أبرزها ضَعفُ منظومة الردع، وعدمُ قدرته على فرض قواعد اشتباك لمصلحته، وتراجُعٌ كبير في خطط المباغتة والمبادرة إلى الهجوم.

  • "إسرائيل" تفقد زمام المبادرة

منذ احتلال فلسطين عام 1948، والعدوّ الإسرائيلي يحاول رسم صورة ذهنية رادعة بشأن جيشه وقدراته العسكريه، وبذل جهداً مضنياً في زرع الخوف والرعب لدى العرب والمسلمين، بهدف كيّ وعيهم، حتى يعتقدوا أن هذا الكيان لا يُقهر، ولا يُهزم.

ونجح العدو في رسم تلك الصورة الرادعة بعد هزيمتي عامَي1948 و1967.

العدو أدرك أن صورته اهتزّت بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، فسعى لترميمها بعد اجتياحه بيروت عام 1982 ، واحتلال الجنوب اللبناني، حتى كُسرت هيبته على يد المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، الذي طرده بصورة مذلّة في تموز/يوليو 2006. وقبل نصر تموز/يوليو بعام، حقّقت المقاومة الفلسطينية أبرز إنجازاتها العسكرية منذ انطلاقة الثورة القسّامية في ثلاثينيات القرن الماضي، ودحرت العدو عن قطاع غزة، وأزالت وجوده العسكري، وفكّكت مستوطناته، التي اعتبرها رئيس وزراء الاحتلال في حينه، أرييل شارون كـ"تل أبيب"، لا يمكن التخلّي عنها.

بعد انسحاب العدو من سيناء وجنوبيّ لبنان وقطاع غزة، بنى سياساته على المحافظة على اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وتحييد جبهة أكبر دولة عربية. ونجح في ذلك، إلى حدّ كبير، بينما فشل في حسم صراعه مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، معتمِداً على فائض القوة الذي يمتلكه، وتبنّيه خُططاً عسكرية تسعى لإحباط التهديدات من حركة "حماس" وحزب الله، مثل خطط المعارك بين الحروب وجز العشب، وعقيدة الضاحية والحسم والفتك، وغيرها، والتي صاغها رؤساء أركانه وهيئاتُها في العقدين الأخيرين، بهدف هزيمة المقاومة والقضاء عليها حتى تستسلم، أو على الأقل ردعها وكيّ وعيها.

لجأ العدو، في مواجهاته مع المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، إلى أسلوب الهجوم الصادم والمروّع والمباغت، معتمداً كثافة نيران عالية جداً، كي يُفقد قيادة المقاومة التوازن والتحكّم والسيطرة بفعل الصدمة من حجم الخسائر الكبير في المقدِّرات والمقاتلين، كمّاً ونوعاً، الأمر الذي يؤدي إلى استسلام قيادة المقاومة. وهي الخُطط، التي بُنيت على ما عُرف بعقيدة الضاحية والحسم والفتك، والتي فشلت بصورة ذريعة في كلّ المواجهات العسكرية، منذ حرب تموز/يوليو 2006 حتى معركة "سيف القدس" في أيار/مايو 2021.

ونتيجةَ فشله، لجأ إلى خُطط بديلة، لا تستهدف القضاء على المقاومة، بل ردعها، وقضم مقدِّراتها، وتثبيت قواعد اشتباك لمصلحته معها. وأبرزها ما عُرف بخطة المعاركة بين الحروب وجزّ العشب، والتي لم تنجح على الإطلاق.

فعلى صعيد ساحة غزة، تحوّلت المقاومة في أرضها إلى قاعدة متقدّمة ورأس حربة للمشروع المقاوم، وتمكّنت من فرض قواعد اشتباك تردع العدو عن اجتياح غزة براً، أو التفكير في إعادة احتلالها عسكرياً. وراكمت قوة ومقدِّرات عسكرية غير مسبوقة في تاريخ الصراع، وتمتّعت قيادتها بإرادة قتالية عالية، بهدف الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وثوابته ومقدَّساته. وهو ما رسّخته أربعُ معارك بين عامي 2008 و2021، تُوِّجت بالانتصار في معركة "سيف القدس" البطولية، والتي عكست تحولاً استراتيجياً في الفكر العسكري للمقاومة، نقلها من حالة الدفاع ورد الفعل، إلى الهجوم والمباغَتة، وأَفْقَدَ العدوَّ الميزةَ التي حاول المحافظة عليها، وتباهى بها على الدوام، وهي المبادرة إلى الهجوم.

وفي جنوبيّ لبنان، ما زال العدو مرتَدِعاً منذ حرب تموز/يوليو 2006، وتمكّن حزب الله من فرض قواعد اشتباك تكبحه من الاعتداء على لبنان، نتيجة معرفة العدوّ بالقدرات العسكرية التي تضاعفت كمّاً ونوعاً أمام سمعه وبصره، وهو ما دعا السيد حسن نصر الله إلى إطلاق تهديد وإنذار للعدو والولايات المتحدة الأميركية، بعدم المساس بسفينة الوقود المبحرة من إيران إلى لبنان، واعتبار مسارها من الابحار حتى الرسوّ لبنانياً خالصاً.

الخلاصة أنّ العدو الإسرائيلي لم يعد يتمتع بميزات متعدّدة لطالما افتخر بها، وسوَّقها أمام العالم، أبرزها ضَعفُ منظومة الردع، وعدمُ قدرته على فرض قواعد اشتباك لمصلحته، وتراجُعٌ كبير في خطط المباغتة والمبادرة إلى الهجوم، أو فشله في تحقيق أهدافه، واهتزازُ دافعته إلى القتال، وخصوصاً القتال البري، واعتمادُه الأكبر على سلاحَيِ الطيران والتكنولوجيا، اللذين لا يحسمان المعارك.

في المقابل، تمكّنت المقاومة من تطوير إمكاناتها العسكرية، تسليحاً وتدريباً، وراكمت الخبرة ميدانياً واستخبارياً، الأمر الذي انعكس على تحسين معادلات الردع، وقواعد الاشتباك، والجرأة في بدء المعركة، والإرادة القتالية العالية في صفوفها، وهو ما يدلّل على تحوّلات عميقة في بيئة الصراع، ستنعكس على توجُّهات الأطراف وسلوكها الميداني على الأرض، الأمر الذي يعني أن شكل المواجهة المقبلة ونتائجَها ستكون مُغايرة لسابقاتها.