أميركا و"إسرائيل"... اختلاف في الوسائل لا الاستراتيجيات
الحرب لا تزال مستمرة، ومن غير الواضح ما إذا كان هناك نهاية قريبة لها، وخصوصاً أن تلك النهاية تتطلب الإجابة عن عدة تساؤلات منها: من سيجلس على الطاولة للتفاوض مع "إسرائيل"؟
تتزامن الجولة الرابعة التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلى المنطقة مع ما تشهده الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من تصعيد ونذر باحتمال توسعها لتشمل دولاً أخرى، في مقدمتها لبنان واليمن.
لبنان واليمن ليسا أقوى أو أكبر بلدين عربيين بكل تأكيد، لكنهما باتا رقماً صعباً في توازنات القوى الإقليمية، لاحتوائهما على المقاومة التي استطاعت أن تكسبهما مكانة وقوة أدت في النهاية إلى تعظيم دورهما وفاعليتهما في الساحة الدولية.
وعلى الرغم مما يعانيه البلدان من أوضاع اقتصادية صعبة ومشكلات سياسية معقدة، لكنهما باتا الداعم الأول لفلسطين ميدانياً وعسكرياً، بمعنى أن "لبنان كبر أكثر بوجود حزب الله فيه"؛ تلك هي الحقيقة التي يسعى البعض لتشويهها بمقولة إن "حزب الله بات اليوم أكبر من لبنان".
منذ أن بدأت عملية طوفان الأقصى، لم نسمع بأي مخاوف أميركية أو إسرائيلية إلا من هذين البلدين، وكأن باقي البلاد العربية باتت خارج معادلة الصراع العربي الصهيوني، باستثناء دول محور المقاومة طبعاً.
حزب الله هو القوة التي باتت حكومة الكيان الصهيوني تخشاها وتحسب لها ألف حساب، والجيش اليمني بات قادراً على المبادرة والضغط لجعل دول العالم كلها تتحرك بفاعلية وجدية لوقف الحرب في غزة، لتضرر مصالحها التجارية في المنطقة، نظراً إلى أهمية باب المندب بالنسبة إلى العالم كله.
التضليل الأميركي المتمثل بالحديث عن التهديد اليمني لطرق التجارة الدولية يجافي الحقيقة ويبتعد عن الواقع، فالمستهدف هو السفن الإسرائيلية والسفن المتجهة إلى "إسرائيل" فقط.
الأوضاع الأمنية الجديدة أدت إلى ارتفاع تكاليف الشحن بنسبة 173%، وارتفاع التأمين عشرة أضعاف، وهو ما يزيد معاناة الدول الأوروبية، لكونها تتزود بالطاقة من هذه المنطقة، وتعيش شتاء قاسياً في هذه الفترة.
جولة بلينكن الرابعة للمنطقة وزيارته الخامسة لـ"إسرائيل" منذ بدء الحرب على قطاع غزة ليست نابعة من حرص الولايات المتحدة على أرواح المدنيين الفلسطينيين بكل تأكيد، لكنها انعكاس لمواقف داخلية أميركية، واعتبارات انتخابية، ومخاوف على مستقبل "إسرائيل" الذي بات مهدداً بكل تأكيد؛ فأميركا ومنذ بداية الحرب كانت الدولة الداعمة للكيان الصهيوني بكل ما تستطيع من قوة، إذ قدمت لـ"إسرائيل" الدعم العسكري والغطاء السياسي اللازم لتقوم بحربها الهمجية على غزة.
الخلافات الأميركية مع حكومة الاحتلال، والتي بدأت تظهر مع إطالة أمد الحرب، ليست خلافات في التوجهات الاستراتيجية لكلا البلدين، بقدر ما هي اختلاف في الرؤية لطبيعة الوسائل اللازمة لتنفيذ تلك الاستراتيجية.
الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" هو من شجَّعها على تدمير غزة، سعياً لتنفيذ مشروعها المتمثل بتهجير الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وسيناء، فما يجري اليوم في غزة ليس ضماناً لأمن الكيان، بل هو تدمير لكل شيء في غزة لتكون غير صالحة للعيش، فالأمن لا يتحقق من خلال التدمير وسرقة ممتلكات الشعب الفلسطيني وممارسة أبشع أنواع التطهير العرقي بحقه، والرفض الفلسطيني لفكرة التهجير، المدعوم عربياً وبقوة، جعل الولايات المتحدة تتراجع نسبياً عن تلك الفكرة.
ما يصدر عن الإدارة الأميركية حتى اليوم يتحدث عن رفض "التهجير القسري" للفلسطينيين، وكأن هناك تهجيراً اختيارياً، بمعنى أن "التهجير الاختياري" خيار وارد، وربما مدعوم من قبل العديد من الدول.
لذا، طُرحت أفكار جديدة تتحدث عن تهجير الفلسطينيين، ولكن إلى أماكن أخرى غير الأردن ومصر، وطُرحت عدة دول، منها ليبيا واليمن وبعض الدول الأفريقية، بمعنى أن فكرة التهجير لا تزال خياراً مطروحاً، لكن تنفيذها يجري العمل عليه ليكون عبر وسائل أكثر نعومة، مثل إتاحة الفرصة للمصابين وذويهم للخروج من غزة للعلاج في دول أخرى قد تكون لاحقاً مكاناً لاستقرارهم أو منطلقاً لهم للاستقرار في دول أخرى.
التدمير العنيف للبنية التحتية في غزة يتمثل أحد أهدافه في ألا يجد الفلسطينيون بعد الحرب مكاناً للعيش فيه. وبالتالي، التفكير في ضرورة الهجرة مع تقديم بعض التسهيلات والإغراءات لتنفيذ ذلك.
وتشير التقارير إلى تدمير نحو 70% من غزة، وهو رقم كبير يطرح تساؤلات كثيرة لما بعد الحرب على غزة. عدم الحديث عن إعادة الإعمار حتى الآن يسهم في تنفيذ فكرة التهجير. لذا، لا بد من السعي لوضع خطة لإعادة الإعمار لتبدأ في اليوم الثاني لوقف الحرب.
بلينكن وأداء دور الناصح لـ"إسرائيل"
يدرك بلينكن صعوبة مهمته، وهي ليست نابعة من ضعف إدارته وقلة خبرته بشؤون المنطقة، لكنها نابعة أيضاً من كون الولايات المتحدة الأميركية لم تعد اليوم اللاعب الوحيد في المنطقة؛ فروسيا موجودة بقوة منذ العام 2015، وكذلك الحضور الصيني لم يعد شكلياً، وخصوصاً بعد النجاح الصيني في تحقيق المصالحة بين السعودية وإيران.
كذلك، باتت إيران دولة محورية ولاعباً إقليمياً لا يمكن تجاوزه، وهي من يمتلك تحالفات قوية مع العديد من دول محور المقاومة.
جولة بلينكن في المنطقة شملت 9 دول، منها "إسرائيل"، ولا يزال موقفه المعلن يتفق مع الموقف الاستراتيجي للكيان المتمثل بضرورة القضاء على حماس، بمعنى أن بلينكن لا يريد الضغط على "إسرائيل"، بل ربما لا يستطيع فعل ذلك، وجل طموحه يتمثل بأداء دور الناصح لحكومة الاحتلال، المتفهم لاحتياجاتها، لكنه يرغب في أن تتفهم "إسرائيل" أيضاً حساسية الموقف الأميركي ومخاوف الإدارة الحالية.
من هنا، إن وقف الحرب لا يعني الإدارة الأميركية في شيء بقدر ضبط إيقاعها لضمان منع توسعها لتشمل دولاً أخرى في المنطقة.
اللافت في الأمر أن بلينكن هذه المرة بدأ جولته الشرق أوسطية من تركيا التي ازدادت الخلافات العلنية بينها وبين كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" بسبب الحرب في غزة، لكنها تبقى في الواقع الحليف الموثوق لأميركا، لكونها عضواً فاعلاً من أعضاء حلف الناتو.
كما أن تركيا ترغب في أداء دور في إدارة قطاع غزة بعد الحرب بشكل مباشر عبر وجود قوات تركية تفصل بين الفلسطينيين و"إسرائيل" أو بشكل غير مباشر من خلال دعم حلفائها الفلسطينيين ليكونوا قادرين على حكم غزة.
بلينكن أخبر الجانب التركي رسالة واضحة مفادها أنه لا يمكن توقع أي مشاركة لحماس في إدارة قطاع غزة في المستقبل، لكنه عرض على تركيا في المقابل ترشيح قيادات فلسطينية قريبة إليها. الموقف التركي، وعلى الرغم من أهميته، لا يزال موقفاً غير فاعل، لا يتعدى التصريحات الكلامية والانتقادات الشعبوية، مع الاستمرار في توثيق العلاقة مع الاحتلال.
بلينكن لم يلتقِ الطرف الآخر
نجاح جولة بلينكن يتطلب منه التباحث مع الطرف الآخر في الحرب، بمعنى حركة حماس، والداعمين لها من محور المقاومة، وخصوصاً إيران وحزب الله، لكن تلك الأطراف ترفض لقاء كهذا في ظل استمرار الحرب على غزة، وتشترط لأي حوار أن يسبقه وقف كامل للعدوان.
مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل كان قد زار لبنان والتقى وفداً من حزب الله برئاسة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الذي أبلغه رفض الحزب مناقشة أي مواضيع قبل وقف الحرب في غزة. اختيار الحزب للنائب رعد يعد بحد ذاته رسالة قوية لبوريل والعالم، فالنائب رعد استشهد ابنه قبل أيام في اعتداء صهيوني على جنوب لبنان.
هذا النموذج من القادة يختلف بكل تأكيد عن النموذج الذي اعتادت الولايات المتحدة التعاطي معه انطلاقاً مما في جعبتها من ملفات وصور وفيديوهات كافية لابتزازهم.
نموذج "القادة القدوة" لم يعد موجوداً في عالم اليوم إلا في حالات نادرة، حين يكون هؤلاء القادة مؤمنين بقضيتهم التي يدافعون عنها، باعتبارها قضية سامية يرخص كل شيء في سبيل الدفاع عنها.
كل المعطيات تشير إلى أنَّ مهمة بلينكن لن يكتب لها النجاح، فالحرب لم تحقق أهدافها المعلنة بعد، ووقفها يشكل خطورة على مستقبل حكومة الاحتلال بكل تأكيد.
لذا، استبق القادة الصهاينة زيارة بلينكن بالتأكيد على حتمية استمرار الحرب في العام 2024، وهو ما يؤكد صمود حركة حماس ونجاحها في إفشال العدوان الصهيوني حتى اليوم.
اجتثاث حماس بات وهماً لا يمكن تحقيقه، فحماس لم تعد حركة مقاومة شعبية فقط، بل باتت أيضاً فكرة وتنظيماً تحظى باحتضان الشعب في غزة.
الحرب لا تزال مستمرة، ومن غير الواضح ما إذا كان هناك نهاية قريبة لها، وخصوصاً أن تلك النهاية تتطلب الإجابة عن عدة تساؤلات منها: من سيجلس على الطاولة للتفاوض مع "إسرائيل"؟ حركة حماس أم السلطة الفلسطينية أو كيان آخر، كما ترغب حكومة الاحتلال؛ كيان يكون قادراً على تقديم المزيد من التنازلات لـ"إسرائيل"، وصولاً إلى تصفية القضية الفلسطينية بطريقة "قانونية".
كل ما يعني بلينكن وحكومته هو منع هزيمة "إسرائيل"، واستعادة الأمن في منطقة البحر الأحمر، والبحث عن قيادة فلسطينية مقبلة لقطاع غزة تكون أكثر انصياعاً للكيان الإسرائيلي.