أصداء نفق الحرية وتجدُّدها في أنفاس الضفة
في عام النفق الثاني، استقرّ ميدان الضفة ثابتاً وتمدَّد، مع عمليات نوعية، كان للكتائب التي شكلتها سرايا القدس، على وقع زلزال النفق، نصيبها المباشر في بعضها، ماذا عن العام الثاني؟
تتجدّد أصداء نفق الحرية وتترى، فلا تقادم لنور الشمس منذ تكحّل وهجها في بريق عينَي محمود ومحمد وزكريا ويعقوب ومناضل وأيهم. حكاية الشمس مع ذكرى تحطيم فولاذ الخزنة، تتجدد مع كل اشتباك في جنين ونابلس وأريحا، مع صواريخ غزة التي نهضت من باطن الارض كنهوض الفرسان الستة، لتدك "تل أبيب" وهم يدكون المباني الرئيسة في النظرية الأمنية الإسرائيلية في تفاخرها وتبجحها، وقد تمرّغت في ترابٍ حفره الأبطال بمسمار صدئ ليقطع بشفرته فولاذ جبال جلبوع، وقد لانَ في قبضاتهم كأفعى موسى وهي تبتلع عصيّ السحرة ومعها كل جبروت الفرعون الإسرائيلي.
عامان مرّا على نفق الحرية، وما زالت مفاعيله في منحنى تصاعدي، كلما أوشكت الظنون أن تضع سقفاً لهذا المنحنى، تأتي المفاجأة أسرع من كل تصور. فما بين إشراقة النفق وابتسامة جميل العموري ورحلة الفرسان إلى حومش، تشكَّلَ أفق جديد لميدان الضفة الغربية، تجلّت ملامحه في ثبات جنين وقلعتها في المخيم، وارتباط جنين بأبطال النفق الستة، فهم أبناؤها، وإليها كانت الوجهة.
ما بين كتيبة النفق، والكتائب التي أينعت من ضلوعها، برعاية أمين الدم الحاج زياد نخالة، والمنفيّ في وطنه طارق عز الدين، تلاحمٌ تتلألأ أضواؤه مع كل طور تنبعث منه عجائب هذا الميدان، كأن هذا الإبدا، ما زال يضع لمساته بما تجاوز أتون الضفة، إلى ما هو تداعياته في معارك غزة الأخيرة، وما تمخض عنها من بداية تعبيد مداميك الجبهات، نصرةً لأوجاع المعتكفين في الأقصى وخيمة شبعا حتى طلقات الجندي المصري في لهيب النقب.
بزغت بواكير ميدان الضفة من تشققات جبال جلبوع، وقد انهارت الخزنة، فخر الصناعة الإسرائيلية. ساعات وبضعة أيام، حتى كانت أصداء النفق اختلجت في أنفاس المستضعفين على امتداد المعمورة، لترتقي بمعنويات الشبان والصِّبْية، والشيوخ والنساء والأطفال، من الفلسطينيين والعرب وعموم المسلمين، وغير المسلمين، من إيطاليا حتى البرازيل.
إعادة اعتقال الأبطال، وما نتج من ذلك من بكائية عاطفية عميقة، انقلبت بدورها إلى طور التأصيل الميداني، كأن الشعب (ومعه الأمة)، في عجزه عن احتضان الأسرى المحررين وحمايتهم من لظى مطاردة غير مسبوقة، استشعر المسؤولية الأخلاقية في الانتماء إلى مشروع تحررهم. لهذا بذل شبّانه وفتيته الدم في تنفيذ طموحاتهم إلى تحويل الضفة، من جنينها حتى خليلها، إلى كتيبة مواجهة تستعيد عبرها القضية الفلسطينية وهجها ودورها المركزي في مجابهة المحتل ومشاريعه الاستيطانية.
كانت دماء داوود الزبيدي شقيق زكريا، ثم دماء شأس الكممجي شقيق أيهم، كافية في عام النفق الأول، من أجل الربط المباشر بين تحولات الميدان وتداعيات مشروع نفق الحرية. وكذلك كان تأسيس كتيبة جنين، وهي رأس حربة الكتائب في صعودها المباشر وغير المباشر، صدى زلزال النفق، نفسياً وجهادياً وسياسياً، على نحو جعل كامل المشهد الميداني يتصل بتاريخ السادس من أيلول/سبتمبر، لحظة قرر الأبطال أن يبصروا نور الشمس.
انقضى العام الأول على نفق الحرية، والدهشة تملأ العقول. كيف كان لهذا الحدث المعجِز أن يدحرج صخرة التحولات في شوارع الضفة وأزقة مخيماتها، بعد أن راهن المحتل على إغراقها في المشاجرات العائلية، والنزاعات المناطقية، والترف السياسي بين السلطة والفصائل، فإذا بوهج النفق يأخذ جنين ومعها شمالي الضفة إلى استعادة بوصلة الكفاح الذي لا يلين.
تجاوزت تأثيرات نفق الحرية العامل النفسي، إلى ما هو التفعيل التنظيمي المباشر، وتبيّن أن أبرز مؤسسي كتيبة جنين وقادتها، تتلمذوا على يد قائد مشروع النفق محمود العارضة، هناك من قلاع الأسر حيث خرج جميل العموري وعبد الله الحصري وتامر النشرتي ونعيم الزبيدي ونضال خازم وغيرهم، وهم يحملون ما تجاوز الوصية الروحية، واحتضنوا توجيهات القائد وتعليماته. لهذا، لم يكن صدفة أن يضم هذا الفعل العبقري القائد زكريا الزبيدي ابن المخيم، والوحيد من خارج دائرة الانتماء التنظيمي للجهاد، وهو القيادي المؤسس في كتائب شهداء الأقصى.
لم يخطر في بال أحد أن تبقى مفاعيل نفق جلبوع تنساح في بقعة الزيت ولهيبها يتقد حتى ذرى الخليل، وقد صار لنابلس بأسها الذي تفجر في قوات إيغوز، كما لرام الله حرّاسها الذين يتطاولون على حواجز المحتل بالشاحنات وهي تقتحم حصونها.
منذ بزغ الأبطال عبر النفق كان رسولهم التلقائي، خضر عدنان، الممثل الشرعي للأسرى في أوجاعهم وإضراباتهم واستنفاراتهم. وضع محمود في جعبة خضر سرّ الحكاية منذ بدايتها، لحظة أطلق صهيل خيولها، فكانت شهادته باللسان والميدان من عرابة حتى مسافر يطا، ألغاماً تدوي على وقع ما أعده الأبطال في شهورهم الثمانية وهم يحفرون الصخر.
في عام النفق الثاني، شكّل استشهاد خضر عدنان صابراً في محبسه، وبعده طارق عز الدين مع اثنين من أبنائه، الارتباط المباشر بين معجزة النفق وميدان المواجهة المتصاعد، وجاء استشهادهما أصلاً ضمن تصفية حساب إسرائيلية مع محطة مواجهة تدحرجت مع زلزال صخور جلبوع، ومعظم فرسانها، كما كل قادة مشهدها خرجوا من مدرسة عرابة، تلك البلدة الرائدة التي تولت تلابيب هندسة التحريك داخل الأسر وفي ميادين الضفة وغزة.
في عام النفق الثاني، استقر ميدان الضفة ثابتاً وتمدد، مع عمليات نوعية كان للكتائب، التي شكلتها سرايا القدس على وقع زلزال النفق، نصيبها المباشر في بعضها، أو شكّلت الحاضن والحافز بشأن عمليات أخرى، حتى عندما كانت فردية محضة. وأخذ العام الثاني معه ما اجترحته كتائب القسام في دخولها البطولي عمليات نوعية في عيلي وحوارة والحمراء، على نحو نقل المواجهة إلى طور جديد، في تسعير طرق المستوطنين، وإفشال مشروع سموتريتش الاستيطاني، وما ترتب على ذلك من تهديدات نتنياهو للقائد العاروري في بيروت.
في وهج الذكرى، وما زال أبطال النفق في العزل الانفرادي، يتعرضون لكل أنواع التنكيل، وهم في عزيمة لا تلين، يبعث يعقوب رسالة من زنزانته الصدئة ليفخر وهو يستعيد التجربة بصلابة، موقناً من صوابية الرؤية، على رغم المرض الذي يعتريه، والهمجية التي تلاحقه. وهو لسان إخوانه الذين حفروا أو ساعدوا أو تحرروا، وما زالوا على عهد القسم الذي أطلقوه، بتحويل قلاع الأسر إلى رأس حربة دائمة في تحريك القضية ورفع مظلوميتها، لتلاطم مخرز المحتل.