مهمة بوتين الصعبة.. حل اللغز القوقازي!
لا يهمل الرئيس بوتين علاقاته "التحالفية" بإيران، وخصوصاً في هذه المرحلة التي يواجه فيها المعسكر الإمبريالي الغربي عموماً من جهة، وعلاقاته "الودية المصلحية" بالرئيس إردوغان من جهة أخرى.
بعد عامين من حرب كاراباخ، التي انتهت بانتصار أذربيجان، مدعومةً من أنقرة و"تل أبيب"، على يريفان التي تخلى عنها الغرب، "الحليف التقليدي"، جمع الرئيس بوتين مرة أخرى الرئيس الأذربيجاني عالييف ورئيس الوزراء الأرميني باشينيان، في قمة ثلاثية في سوتشي، وخرج ليقول "إن الطرفين اتفقا على عدم استخدام القوة بعد الآن"، وتعهّدا "التزام اتفاق 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2020"، الذي أنهى الحرب في كاراباخ.
بوتين، الذي سبق له أن جمع عالييف وباشينيان في مناسبات متعددة، أكد أيضاً "عزم موسكو وإصرارها على بذل قصارى جهدها في تطبيع العلاقات بين البلدين، والتوصل إلى تسوية نهائية وشاملة للأزمة".
لقاء سوتشي، الذي راقبته أنقرة عن كثب، خرج منه باشينيان ليتوجه بعدها فوراً إلى طهران (الثلاثاء) الجارة لكلا البلدين المتنازعين والمتحاربين بسبب إقليم كاراباخ.
باشينيان، الذي وقّع عدداً من اتفاقيات التعاون مع يريفان، يرى في إيران عنصراً مهماً لموازنة الدور التركي في منطقة القوقاز، الحديقة الخلفية لروسيا وإيران وتركيا، وسط اهتمام إسرائيلي وأميركي وغربي عموماً بالمنطقة القريبة من البحر الأسود، كما هي بوابة التواصل مع آسيا الوسطى، حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي. وهو الموضوع المهم بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، ذي المقولات القومية والدينية والتاريخية الخاصة بـ"الأمة التركية العظيمة من البحر الأدرياتيكي إلى حدود الصين"، وهو الشعار الذي رفعه الرئيس الراحل تورغوت أوزال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
الرئيس إردوغان، الذي حرص على لقاء باشينيان في أيلول/سبتمبر الماضي في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بذل، وما زال يبذل مساعيه الخاصة للتطبيع مع يريفان، وفتح الحدود البرية معها، ليساعده ذلك على تحقيق المصالحة بين أرمينيا وأذربيجان. وهو ما سيحقق لتركيا تفوقاً نفسياً، أولاً على روسيا، وثانياً على إيران، التي تشهد علاقاتها بأذربيجان فتوراً وتوتراً جديَّين بسبب التغلغل الإسرائيلي في مؤسسات الدولة الأذربيجانية، والإعلام الذي يشحن الشعور ضد إيران، قومياً وطائفياً، مع المعلومات التي تتحدث باستمرار عن محطات وقواعد إسرائيلية في الجنوب الأذربيجاني قرب الحدود مع إيران.
كل ذلك مع حملات بعض الأوساط القومية والطائفية التركية ضد إيران أيضاً، بحجة تعاطفها وتضامنها مع يريفان، ناسيةً أن إردوغان بالذات يسعى للمصالحة النهائية مع الأرمن، العدو التاريخي والتقليدي لتركيا، بسبب ما يسمونه الإبادة الجماعية لآبائهم وأجدادهم في إبان الحرب العالمية الأولى عندما قامت الدولة العثمانية بتهجير نحو مليونين من مواطنيها الأرمن إلى سوريا، وإلى إيران والعراق، بصورة أقل.
أمّا الحديث عن اتفاق 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 فهو الموضوع الأهم الذي توليه أنقرة ويريفان أهمية، وخصوصاً في مجمل حسابات تركيا الخاصة بالقوقاز عموماً، بحيث تتحدث المادة التاسعة من الاتفاقية المذكورة عن مشروع لربط أذربيجان بإقليم ناختشفوان التابع لها عبر ممر زانكازور، الذي يمر عبر الأراضي الأرمينية، وهو بطول 43 كم، على أن تتولّى القوات الروسية الخاصة الإشراف على هذا الممر وحراسته.
وترى طهران في هذا الممر محاولة لتغيير الواقع الجغرافي في الحدود الطبيعية بين إيران وكل من أرمينيا وأذربيجان، وخصوصاً مع المعلومات التي تتحدّث باستمرار عن وجود إسرائيلي، عسكرياً واستخبارياً، في هذه المناطق، التي قد تنطلق منها بعض المجموعات لخلق المشاكل في الداخل الإيراني، كما هي الحال عليه الآن.
والسؤال الأهم، في ظل هذه المعطيات المتناقضة، تكتيكياً واستراتيجياً، هو: هل سينجح الرئيس بوتين (وكيف سيفعل ذلك) في مساعيه للتوفيق بين حسابات كل الأطراف المذكورة، وحسابات موسكو، التي ترى في القوقاز حديقة خليفة لها، تُضاف إليها جورجيا الجارة لها ولكل من أرمينيا وأذربيجان، القريبة جميعاً من الشيشان وداغستان وجمهوريات الحكم الذاتي داخل روسيا، ذات الأغلبية السكانية المسلمة.
ويفسر ذلك التدخل العسكري الروسي في جورجيا صيف عام 2008، بعد مؤامرات الغرب ضد الأمن القومي لروسيا، وهو ما كرّره الغرب في أوكرانيا عام 2014، فجاء الرد عبر ضمّ القرم إلى روسيا، التي ضمّت إليها جنوبي أوسيتيا التابعة لجورجيا، ودعمت إقليم أبخازيا المستقل هناك أيضاً.
ولا يهمل الرئيس بوتين علاقاته "التحالفية" بإيران، وخصوصاً في هذه المرحلة التي يواجه فيها المعسكر الإمبريالي الغربي عموماً من جهة، وعلاقاته "الودية المصلحية" بالرئيس إردوغان من جهة أخرى، كما لا يهمل أيضاً أهمية الموقع الاستراتيجي لتركيا، التي تطل على مضائق البحر الأسود، وتحافظ على علاقاتها الاقتصادية بموسكو على الرغم من العقوبات الأميركية والغربية بسبب الحرب في أوكرانيا.
وتستمرّ أنقرة في بيع مسيّراتها لكييف، بينما يتهم الغرب روسيا بشراء المسيّرات من إيران، المنافسة التقليدية والتاريخية لتركيا، ليس فقط في القوقاز، بل في الشرق الأوسط عموماً، وخصوصاً في سوريا، التي شهدت، وما زالت، مواجهات جدية وخطيرة وغير مباشرة بين هاتين الدولتين المتنافستين الرئيسيتين، على الرغم من الانحياز الروسي المطلق إلى جانب دمشق. وقد تتحول، أي دمشق، إلى عنصر جديد للمساومة الإيجابية بين موسكو وطهران وأنقرة (أطراف سوتشي)، بالطبع بعد أن ينجح بوتين في مساعيه لتحقيق الانفراج في القوقاز، عسكرياً وسياسياً. وسيحقق ذلك له تفوقاً نفسياً على جميع الأطراف، وخصوصاً واشنطن والعواصم الغربية، التي إن خسرت القوقاز، فقد تخسر الشرق الأوسط بعد الفتور في علاقات الأميركيين بآل سعود وآل نهيان، وبصورة أقل بالقاهرة، التي ترى في موسكو عنصراً مهماً لدعم سياساتها في أفريقيا شمالاً وجنوباً مع استمرار مخاطر السدود التي تبنيها إثيوبيا المدعومة من "تل أبيب" والعواصم الغربية.
ويبقى هناك رهانان أساسيان، أولهما على احتمالات الدور الإسرائيلي تجاه مجمل التحركات الروسية في القوقاز والشرق الأوسط، وخصوصاً بعد ما حققته من انتصارات تكتيكية واستراتيجية عبر "الانفتاح، سياسياً وعسكرياً" على الدول العربية المعروفة وكل من أذربيجان وتركيا، وقبلها جورجيا، وكلها في مركز الاهتمامات الروسية.
أمّا الرهان الآخر فهو الأهم بالنسبة إلى الجميع، وهو سيناريوهات المستقبل السياسي في تركيا، والقائمة على بقاء إردوغان في السلطة، أو مغادرته لها، بعد انتخابات أيار/مايو المقبل، والتي لن تقرر مصير تركيا فحسب، بل مجمل المعادلات والمشاريع، في احتمالاتها المتعددة، والتي تحدثنا عنها أعلاه، وهو ما يزيد في اهتمام الجميع بهذه الانتخابات، لأن تركيا من دون إردوغان ستتباين تماماً عن تركيا مع إردوغان، الذي أثبت، خلال الأعوام العشرة الأخيرة، على الأقل، أنه سيبقى في طريق أجداده العثمانيين، الأعداء التقليديين تاريخياً للروس والفرس، معاً أو على انفراد.