ماذا بين البرهان وحمدوك؟
انقلاب البرهان على المجلس المركزي يضع قوى الإصلاح الوطني أمام امتحان الوصفة الأميركية "للمسار الديمقراطي"، لكنّ مهنة حمدوك الفنّية معدّة لتغطية سقوط السودان في حضن أميركا و"إسرائيل".
الخلطة العسكرية - المدنية التي أنشأتها أميركا ومجتمعها الدولي هي في إطار تشذيب شوائب نظام البشير، لكي يتمكّن البرهان وحميدتي من إعداد السودان للانخراط في مشروع ترامب في العام 2018، المسمى "ازدهار أفريقيا"، والهيمنة الأميركية - الإسرائيلية على القرن الأفريقي والبحر الأحمر.
الانتفاضة الشعبية الواسعة التي اندلعت في العام 2018 ضد الفساد والفقر ورفع الدعم عن الخبز والطاقة، لحظتها إدارة ترامب أثناء الانقلاب على البشير في العام 2019، ونظّمتها إدارة بايدن في "الوثيقة الدستورية" في سياق إيديولوجية "التحوّل الديمقراطي" الذي يفترض حصر الخلافات الداخلية بالتنافس على مغانم السلطة في اللعبة الانتخابية لحماية "الستاتيكو" وتبعية الدولة تحت وصاية أميركا والبنك الدولي.
قوى الحرية والتغيير التي ضمّت التنظيمات المسلّحة إثر "اتفاق جوبا للسلام" في العام 2020، غرقت في الصراع لتحسين مواقع كلّ منها في السلطة الهشّة، فمالت مجموعة "الميثاق الوطني" إلى المجلس العسكري (منها جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة)، بينما راهنت مجموعة "المجلس المركزي" على الدعم الدولي لتغليب موقعها تحت سقف المقولة الأميركية "مدنية - عسكرية".
خلال سنتين من حكم "الشراكة العسكرية - المدنية"، لم تولِ قوى الحرية والتغيير أدنى اهتمام في سياسات انخراط السودان في المشروع الأميركي - الإسرائيلي وأثره في تخريب السودان، فظلّ معظمها يتخيّله نعمة ازدهار، كما يراه البرهان وحميدتي. ولم تواجه وصايا البنك الدولي، بل على العكس من ذلك، اعتبرها عبد الله حمدوك أحد أهم إنجازات "المسار الديمقراطي".
حكومة حمدوك حصان طروادة
حمدوك اليساري الهوى في شبابه الجامعي شحنت موهبته المهنية في المؤسسات الدولية ولاءه للإيديولوجية الأميركية في تسييلها إجراءات تكنوقراطية؛ فعندما كان مديراً إقليمياً لأفريقيا والشرق الأوسط بين العامين 2003 - 2008، أثبت "كفاءته" في "المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية" لنشر الديمقراطية الأميركية.
كان مدماكاً في مشروع ترامب "لازدهار أفريقيا"، بصفته القائم بأعمال الأمين العام التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية في أفريقيا، ويعود له الفضل في "تشجيع الاستثمار الأجنبي" لنهب الثروات الأفريقية وإحكام التبعية لأميركا والدول الغربية والمؤسسات الدوليّة.
على رأس حكومة السودان، طمأن "إسرائيل" و"المجتمع الدولي" في 19 نيسان/أبريل 2020 بإجازة مشروع "قانون إلغاء مقاطعة إسرائيل بشكل نهائي". وفي "مؤتمر باريس لدعم السودان"، يعوّل على "إسرائيل" لدعم السودان في مقابلة مع صحيفة "معاريف" بتاريخ 19 أيار/مايو 2020 قبل شهر من تحذيره قوى الحرية والتغيير من "التشذي"، وقبل 4 أشهر من انقلاب البرهان على الحرية والتغيير.
ما سماه حمدوك "التشذّي" هو نتيجة مساعي تجمّع المهنيين السودانيين، ولا سيما "لجنة التفكيك والتمكين"، للخروج عن "الستاتيكو" العسكري - المدني - الدولي عبر بعض التغيير الراديكالي في منظومة الفساد، وعبر بعض المكاسب الشعبية ضد وصايا البنك الدولي.
بالتوافق مع المجلس العسكري، رأى حمدوك مساعي تجمّع المهنيين السودانيين تخريباً لما سماه "حماية المكتسبات الاقتصادية والديمقراطية"، في إعاقة خطة الحكومة "للتعافي" الذي بدأته الحكومة برفع الدعم وتعويم العملة مع صندوق النقد الدولي. ورأى في وجود لجان المقاومة تخريباً "للمسار الديمقراطي"، فأطلق عليها تسمية "لجان التغيير والخدمات"، لكي يقتصر وجودها على البقاء الهامشي في الأحياء والأسواق الشعبية.
القوى الوطنية في مطبّ الحفرة
القوى السياسية في "المجلس المركزي" تنتظر معظمها تأليف "حكومة التكنوقراط" والضغوطات الدولية للمشاركة في خلطة جديدة وتوزيع مغانم السلطة، لكن تجمّع المهنيين والحزب الشيوعي ولجان المقاومة أمام تحدّي امتحان الخروج من حفرة الثنائية العسكرية - المدنية الآسنة، وإعادة النظر في آفة "المسار الديمقراطي" الأميركي، نحو مشروع وطني لتغيير نظام التبعية ومنظومة الفساد.
لم يجدِ تغاضي "لجنة التمكين" عن نهب البرهان وقوات الدعم السريع وفسادهم، في عدم إثارة الممتلكات والأموال الخاصة، نتيجة التبعية لأميركا في خدمة "إسرائيل" والإمارات والسعودية. وعلى الرغم من ذلك، عطّلت الحرية والتغيير إجراءات اللجنة ضد منظومة البشير.
رفضت وزارة المالية تسليم حوالى مليار دولار من الأصول غير الشرعية، ورفضت وزارة العدل حل حوالى 98 منظمة وجمعية وشركة خاصّة، والحجز على 3200 عقار وتسريح بعض القضاة. وفي ليلة الانقلاب، اعتقل البرهان رئيس اللجنة محمد فكي سليمان بتهمة جناية "تصفية الحسابات".
لم تدافع الحرية والتغيير عن لجان المقاومة السودانية التي قتل حميدتي 3 من قادتها وأحد زعمائها عمار الدرديري، لرفضهم نظام التطبيع ومنظومة النهب والتجويع في العام 2019، في دعوتهم إلى "الاستقلالية التامة لسيادة الدولة بشأن كل القرارات الاقتصادية والسياسية والأمنية".
انقلاب البرهان من أجل حكومة "تكنوقراط"، يأمل تدجين الواجهة المدنية لنظام التبعية والانهيار الذي تعوّل على خدماته أميركا و"إسرائيل" في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وإذا كانت أميركا مولعة بضم الواجهة المدنية كل القوى السياسية المطواعة في "المسار الديمقراطي"، فإن "إسرائيل" تضرب بعرض الحائط الحساسية الأميركية لحسابات واجهتها.
وزيرة الخارجية مريم المهدي تؤكّد دعم "إسرائيل" لانقلاب البرهان عبر وفد إسرائيلي أمني وصل إلى الخرطوم قبل الانقلاب العسكري، وهو ما حاول جيفري فيلتمان أن يتجنّبه في زيارته لـ"إسرائيل" قبل اجتماعه مع البرهان ليلة إعلان الانقلاب.
لعلَّ تسارع الأحداث في إثيوبيا وخشية "إسرائيل" والإمارات من عرقلة مشاريعهما في أرتيريا وجيبوتي والبحر الأحمر، دفعا إلى تسريع الانقلاب، لكنها إشارة إلى القوى الوطنية السودانية بأنها في الداخل أمام مواجهة مشروع استتباع جيوسياسي يتجاوز الاصطفافات العسكرية والمدنية في الصراع على المكاسب الخاصة.