رسائل بوتين الذكية.. هل يفهم "الناتو" اللعبة ويهدأ؟
تتزامن أزمة اللاجئين عند الحدود بين بيلاروسيا وبولندا مع مشكلة اقتصادية عنوانها ارتفاع أسعار الغاز على نحو لافت في أوروبا.
تفاقمت مؤخَّراً أزمة المهاجرين المتكدِّسين، في ظل درجات حرارة وصلت إلى التجمّد، عند الحدود بين بيلاروسيا (روسيا البيضاء) وبولندا، وسط اتهامات أوروبية لحكومة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، في مينسك، بتشجيع الهجرة عبر بلاده، كورقة ضغط ضد الاتحاد الأوروبي. وذكرت وكالة أنباء روسيا البيضاء الرسمية ("بيلتا")، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس لوكاشينكو ناقشا أزمة المهاجرين عند الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا، وعبّرا عن قلقهما إزاء وجود القوات البولندية هناك، بطريقة غير عادية تشكل قلقاً بالغاً.
في الواقع، وفي أكثر من حادثة أو واقعة سابقة، كان عدد اللاجئين الذين حاولوا العبور عبر تركيا، انطلاقاً من دول في الشرق الأوسط، أو من دول في آسيا الوسطى، نحو دول من الاتحاد الأوروبي، يصل في أغلبية الأحيان إلى عشرات الآلاف. وعلى الرغم من أن هناك اتفاقية بين أنقرة وبروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) تضبط حركة عبور اللاجئين من الحدود التركية إلى الداخل الأوروبي، أو تقيّدها، وبالرغم من أن تركيا كانت التزمت (في مقابل مبالغ ضخمة من دول الاتحاد) ضبطَ حدودها أمام هؤلاء، وعلى خلفية الوضع الإنساني (الصحي، أو الغذائي، أو المتعلّق بظروف الطقس والمناخ)، فإنه كان يحدث تسرُّب وعبور لعدد غير بسيط، ويفوق بأضعاف العددَ الذي يتكدَّس اليوم عند حدود بولندا مع بيلاروسيا.
فلماذا إثارة هذه الأزمة اليوم في وجه بيلاروسيا بصورة عنيفة، بالنسبة إلى عدد لا يناهز ألفَي لاجئ، وصلوا إلى بيلاروسيا أيضاً رُغماً عنها، وفي ظروف مُغايرة، هي غير مسؤولة عنها، انطلاقاً من تركيا مباشرة، عن طريق الجوّ، أو بطريقة غير مباشرة، عن طريق البَر، تسللاً عبر أوكرانيا وبحر قزوين وآسيا الوسطى؟
أليس المقصود من هذا التصويب الأوروبي العنيف، هو روسيا وموقفَها وموقعها وعلاقتها ببيلاروسيا، في إشارة إلى نيّات غير حَسَنة بشأن تأثير موسكو في خلق هذا الملف وتسعيره؟
هذه الأزمة عملياً (اللاجئون من بيلاروسيا) تتزامن تقريباً مع مشكلة اقتصادية ظهرت مؤخراً في أوروبا، عنوانها ارتفاع أسعار الغاز، على نحو لافت وغير منطقي أو طبيعي، مقارنة بظروف عادية مماثلة في تواريخ سابقة، وفي إثر تعرّض موسكو لانتقادات مفادها أنها تقلِّص إمدادات الغاز عمداً، في محاولة لتسريع إطلاق خط أنابيب غاز "نورد ستريم 2"، الذي يربط روسيا بألمانيا. وحمّل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوروبا المسؤوليةَ عن أزمة الطاقة الحالية، بحيث صرّح، خلال لقاء نقلته القنوات التلفزيونية وجمعه بقادة قطاع الطاقة الروسي، قائلاً "إن الأوروبيين ارتكبوا أيضاً أخطاء كبيرة"، وذلك في الوقت الذي قال متحدث باسم الكرملين إنه ليس لروسيا أيُّ دور في ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا، بحيث يؤدي التعافي الاقتصادي وانخفاضُ مخزونات الغاز وتقلُّصُ إمداداته إلى السوق الفورية، إلى أزمة في سوق الطاقة، وإنّ موسكو مستعدة لمناقشة عقود جديدة وطويلة الأجل بشأن مبيعات الغاز للمستهلكين الأوروبيين، وإن روسيا تفي بجميع التزاماتها بشأن إمدادات الغاز.
فماذا يقصد الرئيس بوتين في قوله إن الأوروبيين "ارتكبوا أخطاء كبيرة"، إذا كان المسؤولون الروس الآخرون حدَّدوا سبب الأزمة في الجانب الاقتصادي فقط؟
من الطبيعي أن الرئيس بوتين لا يضع هذه الأخطاء الكبيرة والتي ارتكبها الأوروبيون بمحاذاة موضوع ارتفاع أسعار الغاز، إذ توجد، في نظره، ملفات حساسة كثيرة يتواجه فيها مع الأوروبيين، ومن خلفهم مع الأميركيين، تفوق أهميتها وحساسيتها موضوع الغاز، ويعتبر أن الأوروبيين أخطأوا في مقاربتها. وهذه الملفات، التي تضغط على العلاقة بين "الناتو" وموسكو، تتصاعد حدة التوتر بشأنها حالياً، ويبدو أنها أصبحت في مستوى غير سهل من التوتر، يفترض المعالجة قبل أن تتطور الأمور إلى ما لا يمكن ضبطه أو تحمُّله، ويمكن وضعها أو حصرها في خانة الهجمة الأميركية الأوروبية على روسيا، انطلاقاً من أوكرانيا وملفاتها المتداخلة مع الروس في أكثر من جانب، وهي:
- ملف طلب أوكرانيا الانضمام إلى "الناتو"، والملف المرتبط به، وهو عدم اقتناع دول الحلف الأخير بوضعية شبه جزيرة القرم واعتبار أنها أرض روسية، كما يريدها بوتين، أو ملف إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا)، والذي بدأ يُستهدَف عبر مسيّرات تركية من نوع "بيرقدار" الفعالة، وحيث تبذل أوكرانيا مساعيَ كبيرة للانضمام إلى الحلف، بالتوازي مع تأييد واسع زاد وتيرتَه مؤخراً هجومُ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن على روسيا، خلال زيارته كييف، داعياً إياها إلى "إنهاء العدوان" على منطقة القرم، والتوقف عن زعزعة الاستقرار في منطقة البحر الأسود وحدود أوكرانيا، وهدّدت روسيا بعواقب وخيمة فيما لو تمَّ هذا الانضمام.
- ملف الصراع على النفوذ في البحر الأسود، وما يحدث من انقضاض غربي على هذا البحر، الذي يشكّل متنفَّساً طبيعياً لروسيا، تاريخياً وجغرافياً، من خلال سلسلة متواصلة لا تنقطع من المناورات العسكرية الاستفزازية، تشارك فيها دول "الناتو" بحماسة واضحة، كانت سبباً في مواجهة دبلوماسية غير عادية، في تحذير فوق العادة لوزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، رداً على تصريحات سابقة لوزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب كارنباور، التي دعت "الناتو" إلى ضرورة ردع روسيا عبر استخدام التهديد النووي، بحيث قال شويغو إنه "يجب أن يعرفوا جيداً كيف سبق أن انتهت مثل هذه التحركات بالنسبة إلى ألمانيا وأوروبا"، قاصداً الحربين العالميتين الأولى والثانية.
في الواقع، تم اختيار أوكرانيا من جانب "الناتو" نقطةَ ارتكاز لمواجهة الروس، نتيجة عدة أسباب. فهي تشكّل واجهة روسيا الغربية على البحر الأسود وبحر أزوف، وبالتالي تشكّل مدخل روسيا الحيوي نحو البوسفور والدردنيل فالمتوسط. كما تُعتبر أوكرانيا حالياً، خطَّ الدفاع الاستباقي الأخير بين دول "الناتو" والبر الروسي، بعد أن كان هذا الخط، خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، متقدماً غرباً إلى عمق أوروبا الشرقية، بين بولونيا وألمانيا الشرقية وهنغاريا ورومانيا.
انطلاقاً من كل هذه الملفات الحساسة، والتي أثارت عصبية الرئيس بوتين واستياءه تجاه "الناتو"، وفي ظلّ استحالة الصِّدام العسكري المباشِر بين "الناتو" وروسيا، وهو أمر لم يحدث سابقاً حتى في أزمات أخطر من أزمة أوكرانيا الحالية، ومع الخطورة والتداعيات للصِّدام المباشِر والذي لن يكون في مصلحة أحد، كان لا بدّ للرئيس الروسي من أن يوجه بعض الرسائل المبطَّنة، والتي تحمل في طياتها مستوى غير بسيط من القساوة والجدية، من دون أن تلامس المواجهة العسكرية المباشِرة والخطيرة. فكانت رسالة ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا بطريقة مؤلمة، سارع إلى ضبطها بعد أن التمس أن الأوروبيين فهموها ولمسوا خطورتها، وكانت رسالة مناورة اللاجئين عبر الحدود البيلاروسية في اتجاه بولندا، ومنها إلى العمق الغربي الأوروبي. وأيضاً، يبدو أنهم فهموها، وهم الآن يبحثون عن حل لها بعيداً عن ممارسة التحدي لبيلاروسيا، ومن خلفها لروسيا.