حكومة "إسرائيل" بين نارين.. أيّهما تحرقها عام 2022؟
هل تصمد الحكومة الإسرائيلية مدةً طويلة، وكيف يؤثّر النواب العرب من جهة، والمستوطنون من جهة أخرى، في مستقبلها؟
يشهد الواقع السياسي في "إسرائيل" حالة خاصة لم تشهدها حكومات سابقة، وتتمثّل بثلاثة محاور أساسية: الأول، أن الحكومة الجديدة وجدت نفسها في مستنقع معركة "سيف القدس"، والذي ورّطها فيه بنيامين نتنياهو وغلاة المستوطنين.
والثاني، أن الحكومة ذات تمثيل برلماني ضيّق، لا يتعدّى من منحوها الثقة 61 عضواً، ويرأسها رئيس حزب صغير، يشهد صراعات داخلية تهدّد مستقبل الحزب وحتى وجوده.
والثالث، يتمثّل بوجود حزب عربي إسلامي، لأول مرة، داخل حكومة صهيونية يرأسها مستوطن متديّن، شغل، في الماضي، منصب رئيس مجلس المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، ويرفض، في الحاضر، الاعتراف بأي حق للشعب الفلسطيني في وطنه، حتى إنه لا يعترف بوجود شعب فلسطيني. وبناءً عليه، يرفض الاعتراف بقياداته الرسمية أو التفاوض معها. ومع ذلك، يتعرّض لحملة تحريض شرسة من اليمين الصهيوني المتطرف والاستيطاني، بسبب وجود أعضاء عرب في حكومته. ومن هنا، لا بد من أن نسأل: هل تصمد هذه الحكومة مدةً طويلة، وكيف يؤثّر النواب العرب من جهة، والمستوطنون من جهة أخرى، في مستقبلها؟
الهجمة الاستيطانية في المدن الفلسطينية التاريخية
بداية، لا بدّ من التذكير بأن حملة المستوطنين الدموية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في المدن الفلسطينية التاريخية ليست جديدة، ولم تبدأ في ظلّ حكومة بينيت- لبيد، وليس بسبب انضمام القائمة العربية الموحدة إلى حكومة الاحتلال الحالية، بل هي استمرار لمخطط سياسي سابق، بدأ تنفيذه منذ انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، وتصاعدت الهجمة كثيراً بعد اتفاقيات أبراهام، وأخذت أبعاداً إضافية في ظل حكومة بينيت.
في ظل الهجمة الاستيطانية والاقتحامات المكثَّفة للحرم القدسي الشريف في أيار/مايو 2021، ومحاولات اقتلاع الفلسطينيين من منازلهم في الشيخ جراح وأماكن متعددة في القدس الشرقية المحتلة، قامت مجموعات استيطانية، ضمن المخطط الاستيطاني نفسه، بالعمل على اقتلاع الفلسطينيين من منازلهم في المدن الفلسطينية التاريخية، داخل الخط الأخضر، وأعني يافا واللد والرملة وحيفا وعكا، الأمر الذي تحوّل إلى صدامات دامية. هذه الصدامات، التي اختلط فيها الاعتداء على المنزل الخاص بالاعتداء على المقدَّسات العامة، الأكثر حساسية في وجدان الفلسطينيين، وهي الحرم القدسي الشريف، شكّلت حدثاً مفصلياً للعلاقة بين العرب واليهود في تلك المدن، وأَشْغَلت حكومة بينيت منذ أيامها الأولى حتى اليوم.
إشكالية المشاركة العربية في حكومة بينيت- لبيد
انضمّت القائمة العربية الموحَّدة إلى حكومة بينيت في ظروف معقَّدة للغاية: تصاعُد خطير في انتشار الجريمة المنظَّمة في البلدات العربية؛ وعدم قيام الأجهزة الحكومية المختصة، بدءاً بالشرطة وانتهاءً بالقضاء، بواجباتها القانونية في مكافحة الجريمة؛ وتراجُع اقتصادي في البلدات العربية داخل أراضي الـ48، حتى وصل الأمر إلى حالة لم يعد المجتمع العربي قادراً على تحمُّلها. في موازاة ذلك، تكرّرت اقتحامات المستوطنين المكثّفة للحرم القدسي الشريف، قبل توقُّف القتال بين "إسرائيل" والمقاومة الفلسطينية (معركة "سيف القدس")، والدخول في مفاوضات من أجل عقد صفقة تبادل أسرى.
في هذه الظروف، قبلت القائمة الموحَّدة، بدعم من الرئيس محمود عباس، أن تشارك في كل حكومة وفقاً للأجندة المدنية حصراً من دون الوطنية. واعتقد نواب القائمة أنهم ينتهزون فرصة يحتاج فيها الطرفان المتصارعان على السلطة إلى الصوت العربي للوصول إلى رئاسة الحكومة، فتجعلهم قادرين على ممارسة "الضغط من الداخل" من أجل وضع خطة حكومية، وتُرصَد لها الميزانيات المطلوبة لمكافحة الجريمة، كما تُرصَد الميزانيات أيضاً لتحقيق بعض المكاسب المادية للسلطات المحلية العربية، وهي في أمسّ الحاجة إلى ذلك، بالإضافة إلى الاعتراف بعدد من القرى العربية غير المعترف بها في النقب، وحقوق مدنية أخرى.
خلق هذا الوجود العربي في حكومة بينيت ارتباكاً في الفكر السياسي الصهيوني، في ماهية "الدولة اليهودية" المنصوص عليها في قانون القومية، والذي يقول بصراحة إن القرارات المصيرية يتّخذها اليهود فقط. كما وضعت هذه الحالة مفهوم العلاقة بين "الدولة" و"المواطنين العرب" على مفترق طُرُق، كما حدث يوم الأرض عام 1976، وخلال الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. في الوقت ذاته، ارتفع مستوى الضغط الذي يمارسه المستوطنون على حكومة الاحتلال من أجل منعها من تحقيق أيّ مكاسب للمواطنين العرب. وبدلاً من ذلك، يطالبونها بتقديم شهادات حسن سلوك إلى المستوطنين.
ضمن الموقف الأيديولوجي للمستوطنين، وتحت عنوان "كارثة صهيونية، حكومة ثنائية القومية"، كتب د. جدعون حزان (وهو رئيس برنامج إكسودس في معهد "أرجمان" في القدس المحتلة)، في المجلة الفكرية "هشيلوح"، العدد 27، يقول إن "ظاهرة النعامة التي تطمر رأسها في الرمل، والتي تعانيها أغلبية اليهود، وصلت إلى مستويات جديدة، عبر إقامة حكومة تعتمد على قائمة عربية؛ قائمة تصرّح بالتزامها الرؤيةَ الإسلامية للشرق الأوسط. وهي تقوم، تقريباً، بكل ما تقوم به منظمات إسلاموية أخرى من حولنا. تستخدم البرلمان وسيلةً لتُراكِمَ القوة والتأثير، اللذين يسمحان لها بتحقيق رؤيتها". وأضاف حزان، متناسياً كلَّ الصراعات المكشوفة بين القائمة المشتركة وزميلتها القائمة العربية الموحَّدة، على الرَّغم من الثمن الكبير الذي تدفعه الأحزاب العربية المشاركة في الحكومة أو في المعارضة، أنه يرى كأن القائمتين حاكتا "مؤامرة على حكومة نفتالي بينيت، فوقعت بين فكَّي كماشة، القائمة العربية الموحَّدة داخلها، والقائمة المشتركة خارجها، وهما قادرتان على إسقاط الحكومة في كل وقت".
وبناءً عليه، حدّد حزان مطالب المستوطنين من حكومة بينيت بما يلي: "الطريق الوحيد أمامنا، إذا كنا نريد الحياة، هو طرد العناصر المعادية للصهيونية من حياتنا العامة. لا يجوز لنا أن نموّل، أو نسمح بتمويل خارجي لإنتاج أفلام سامة، وأكاديميين يشهّرون بإسرائيل ويسبّبون ضغطاً عليها، أو تمويل وسائل إعلام تقدّم إليهم منصّات مؤيدة وسياسيين ومنظمات أهلية تنشئ جيلاً فلسطينياً ثالثاً يكره إسرائيل ويحمل الهوية الزرقاء. إذا تركنا معالجة هذه الأمور للحالات التي ينفجر فيها العنف، فسنجد أنفسنا أمام انتفاضة داخلية عامة من دون أدوات لمواجهتها. في سنوات الخمسينيات والستينيات نجحت الدولة الحديثة والضعيفة في مواجهة العرب، بسبب غياب قيادة عربية من ناحية ووجود نخبة يهودية حازمة من ناحية أخرى. اليوم، انقلبت الصورة. لذلك، من الضرورة القصوى أن تتّحد كل القوى الصهيونية في كل المستويات".
بينيت بين نارين فماذا يفعل؟
قبل إقرار الميزانية، التي خصّصت مبالغ خاصة لمعالجة قضايا "المواطنين العرب"، والاعتراف بثلاث قرى بدوية في النقب، بدلاً من الاعتراف بـ 13 قرية، كما وُعِدت القائمة الموحَّدة قبل تشكيل الحكومة، أصرت الحكومة على أن تمرر قرارات خطيرة بحق عرب النقب، من أجل إرضاء المستوطنين، ومنها موافقة نواب "الموحَّدة" على تسوية الأراضي في النقب، بحيث تصادر "الدولة" أغلبية أراضي البدو في مقابل اعترافها بملكيتهم للحصة الأصغر. ليس هذا فحسب، بل أيضاً اتخاذ قرار حكومي بإقامة 11 مستوطنة يهودية في الأراضي المصادَرة من عرب النقب، وسلسلة طويلة من القرارات المجحفة أيضاً.
إلى ذلك، اتخذت حكومة بينيت قراراً يقضي بتفويض "الشاباك" العملَ على مكافحة الجريمة بالتعاون مع قوات الجيش والشرطة ومجلس الأمن القومي والمستشار القضائي للحكومة وسلطة الضرائب وسلطة تبييض الأموال. وأعلنت جمعيات حقوقية، منها جمعية "حقوق المواطن في إسرائيل" و"مركز عدالة للحقوق القانونية"، وغيرهما، معارضتها الشديدة لهذا القرار بسبب تعارضه مع القانون. وأشار "مركز عدالة" وجمعية "حقوق المواطن"، في رسالتيهما إلى رئيس حكومة الاحتلال والمستشار القضائي ووزير الأمن، إلى أن "الجيش والشاباك لا يملكان أي صلاحية للعمل في الشؤون المدنية". وأوضحا أن "قرار الحكومة عبارة عن خطوة خطيرة تُفسِّر نيّات السياسة الإسرائيلية بشأن التعامل مع المواطنين العرب كأعداء، وهي سياسة مستمرة منذ أيام الحكم العسكري في البلاد".
على الرغم من هذه المعارضة، فإن حكومة الاحتلال قامت، يوم 14/12/2021، بتشريع قانون في الكنيست، مرّ بالقراءة الأولى، بموافقة القائمة الموحّدة، يُقام بموجبه "لواء خاص مكون من الشرطة والجيش والشاباك" من أجل "مواجهة الجريمة في المجتمع العربي" داخل حدود أراضي الـ 48، وقانون آخر يسمح لقوات هذا اللواء باقتحام البيوت من دون إذن من المحكمة، كما هو مطلوب وفق القانون المدني، الأمر الذي يجعل البلدات العربية تخضع لقانون عسكري، في حين تخضع البلدات اليهودية لقانون مدني. وفي هذا إعادة فرض أحكام عسكرية على المواطنين العرب، كانت رُفعت عام 1966 بانتهاء الحكم العسكري. وهكذا، يكون المواطنون العرب أمام خيارين أحلاهما مُر: قبول انتهاك حقوقهم المدنية وحُرُمات بيوتهم، أو قبول استمرار الجريمة التي تهدِّد حيوات فلسطينيي أراضي الـ48، مع العلم بأن حصاد الجريمة في تصاعد منذ عام 2000 حتى اليوم، وتجاوز الإحصاء السنوي 130 قتيلاً برصاص عصابات الإجرام. فهل يكفي هذا لإرضاء المستوطنين؟
هكذا، يعمل "الشاباك" على "خط التماس بين الجريمة والنشاط الوطني الفلسطيني، المعادي للدولة"، كما اشترط رئيسه مسبّقاً، وهذا يعني أنه سيخلط بين المجرم الحقيقي والناشط الوطني، ليجعل كل نشاط وطني "نشاطاً إجرامياً" في نظر العرب، و"نشاطاً أمنياً معادياً للدولة"، في نظر اليهود.
عودة إلى المحور الأول ومعركة "سيف القدس"
ضمن هذا المحور، دخلت حكومة بينيت مساراً من التفاوض، ورثته عن حكومة الاحتلال السابقة، لإنجاز صفقة تبادل أسرى بين "إسرائيل" والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. هذه المفاوضات لم تتقدم، ومن غير المتوقَّع أن تجرؤ حكومة بينيت على تلبية مطالب المقاومة، لأن المستوطنين داخلها قد يُسقطونها. وفي الوقت ذاته، من غير المتوقَّع أن تجرؤ على الدخول في معركة جديدة مع المقاومة، لأن القائمة الموحَّدة لن تستطيع البقاء فيها.
الخلاصة
يخلق هذا الواقع الجديد تحدياً جذرياً للفلسطينيين داخل أراضي الـ 48 وعلاقتهم بـ"الدولة"، أي الكيان الإسرائيلي. فمن أراد منهم الاندماج في "المجتمع الإسرائيلي"، يبقَ في نظر مؤسسات الكيان خطراً أمنياً يتابعه "الشاباك". ومَن أراد التصدي للسياسة العنصرية الكولونيالية، يجدْ نفسه ضمن تصنيف المجرمين، وفق قوانين الاحتلال الجديدة. وهذا قد يخلق حالة جديدة أيضاً، لا يرى فيها الفلسطيني ابن حيفا فارقاً بينه وبين الفلسطيني ابن رام الله ونابلس والخليل؛ أي ان فكرة المصير الواحد قد تعود إلى الوعي الفلسطيني، ولهذا تداعيات كثيرة.
في المقابل، يُصرّ المستوطنون على مواصلة الضغط على حكومة الاحتلال لتعمل على تحقيق أحلامهم في القدس المحتلة، كما في اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا. كل هذا لن يرضيهم، ويٌصرون على أن تبقى حكومة بينيت ـ لبيد في موقع المتهَمة بالتقصير وبمحاباة العرب، وخيانة المشروع الصهيوني، وبأنها تشكّل "كارثة صهيونية". كما يُصرّون على ألاّ تفرّق حكومة الاحتلال الإسرائيلي وأجهزتها الأمنية والقضائية بين فلسطيني في رام الله وآخرَ في حيفا، وربما يكون هذا ضمن الرؤية الصهيونية "للحل الدائم".
هذه الحالة لن تدوم طويلاً، لأن القائمة الموحدة لا تستطيع البقاء في حكومة الاحتلال، في نظر بينيت، إلاّ إذا تحولت إلى "مسحوق غسيل" لتنظيف الملابس الإسرائيلية القذرة. ولن تدوم طويلاً لأن المستوطنين لن يرضوا أن تبقى الحكومة الصهيونية تحتضن نواباً عرباً، وتستجيب لبعض مطالبهم، وإن كانت أثمان ذلك باهظة على العرب.
هذه الحالة لن تستمرّ لأن المقاومة لن تقبل الهدوء مع استمرار الحصار ومنع إعادة الإعمار، واشتراط ذلك بتحرير الأسرى الصهاينة من دون تحرير الأسرى الفلسطينيين.
وهذا يعني أن معركة "سيف القدس" لم تنتهِ بعدُ، لا من جانب المستوطنين، ولا من الجانب الفلسطيني، وإنما تُبنى طبقات إضافية على أساساتها، ليس فقط على الصعيد الوطني الفلسطيني، بل على صعيد الحقوق الدينية الإسلامية في الحرم القدسي، وحقوق المواطنين الفلسطينيين في منازلهم في القدس الشرقية المحتلة وأراضي الـ 48، على حد سواء. وإن موعد تفجُّر الصواعق من جديد قادم لا محالة.
إن ضمان استمرار حكومة بينيت يعتمد حالياً على ثلاث أرجُل:
1)، بقاء بنيامين نتنياهو مرشحاً لليكود، بغياب قانون يمنعه من الترشح. وهذا يعني أنه يهدّد الحكومة الحالية بالعودة إلى المنافسة في رئاسة الحكومة.
2) دعم خارجي من الإدارة الأميركية الديموقراطية خشية عودة بنيامين نتنياهو إلى الحُكم، نتيجة ما يمكن أن يسببه لها من إزعاج في سياستها الخارجية وفي الكونغرس.
3) استمرار التطبيع العربي، على أمل اتساعه أو تعميقه، ليحقّق أطماع "الجمهور الإسرائيلي" المتحفّز لجني الأرباح من الخليج، الأمر الذي يزيده شعوراً بالعظمة والتفوّق على أعدائه.