تطبيع متعثّر مع السودان.. هل يفتح الانقلاب طريقه؟
يقول فيلتمان إنَّه لم يتلقَّ أيَّ إشارة من البرهان حول نيّته، فهل خدع الأخير ضيفه ولم يخبره عن مخططه سلفاً، ما ضاعف من الغضب الأميركي؟
صباح الأحد 24/10/2021، أعلن الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي في السودان، انقلاباً عسكرياً ضد شركائه المدنيين في الحكومة الانتقالية، برئاسة د. عبد الله حمدوك، وأرفق ذلك بعدد من الإجراءات، أوّلها إعلان حالة الطوارئ في السودان، وحل المجلس السيادي الذي يرأسه، وحل الحكومة واعتقال رئيسها د. عبد الله حمدوك وزوجته، وعدد من الوزراء، وحل النقابات المهنية وعزل الولاة.
وبذلك، سيطر البرهان على الحكم كله في السودان، الأمر الذي دفع المواطنين من حركة الحرية والتغيير، التي قادت ثورة نيسان/أبريل 2019 ضد عمر البشير، وجاءت بالبرهان إلى رئاسة المجلس السيادي شريكاً لها في الحكم، إلى النزول إلى شوارع الخرطوم وأم درمان وغيرهما من المدن السودانية، فتصدّى لهم الجيش بقوة السلاح، وسقط من المدنيين 7 ضحايا في اليوم الأول وعشرات الجرحى، ويقال إنهم تجاوزوا 140 جريحاً.
أثار هذا الانقلاب الرأي العام الدولي، فرفض الانقلابَ، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة وعددٌ من الحكومات، مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وغيرها، البرهانَ بتحرير المعتقلين وإعادة الحكومة المدنية من أجل استكمال العملية الديمقراطية في البلاد، وفقاً للوثيقة الدستورية التي تمّ التوقيع عليها بعد الثورة.
لكن مجمل الانشقاقات التي حصلت بين قوى الحرية والتغيير في السودان، والنشاط الدولي الذي حصل عشية الانقلاب، وردود الفعل التي صدرت بعده، وتوقيته، تثير كلها مجموعة من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها لفهم دوافعه والقوى الداعمة له، خارجية كانت أو داخلية، وعلاقة ذلك بعملية التطبيع المتعثرة بين "إسرائيل" والسودان.
هنا، نذكّر بأن الانقلاب جاء على خلفية الانشقاقات المتعددة التي حصلت داخل "قوى الحرية والتغيير"، والاتهامات بالإقصاء عن الحكم، ودعوة بعضهم المواطنين إلى النزول إلى الشارع احتجاجاً على الإقصاء.
وكان رئيس حزب الأمة الوطني، عبد الله مسار، قد صرح يوم 2 تشرين الأول/أكتوبر الحالي لوكالة "سبوتنيك"، أنَّ مكونات تحالف "قوى الحرية والتغيير" في السودان تمارس الإقصاء بحق أحزاب سياسية أخرى، ما سبب خلق هذه الأزمة السياسية الجارية في البلاد، فهل انتهز البرهان فرصته واستبق تعاظم نزول الجماهير إلى الشارع بانقلاب يحكم البلاد بالقوة؟
لا شكّ في أنَّ قوى مدنية نتجت من هذه الانشقاقات، يقول بعض المعلّقين إنها بقايا حزب المؤتمر الوطني المنحل (حزب عمر البشير)، ساندت الخطوات التي اتخذها البرهان، إضافة إلى مؤيدي هذا الحزب الذين ما زال نفوذهم قائماً داخل الجيش.
كما نذكر أيضاً أنّ الموفد الأميركي جفري فلتمان زار السودان عدة مرات خلال الشهر الأخير، كان آخرها قبل يوم واحد من الانقلاب. وخلال زياراته، كان يبحث مع البرهان سبل حل الأزمة في السودان بين العسكر والحراك المدني.
واجتمع المبعوث الأميركي للمرة الثانية برئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو، والتقى مدير رئاسة مجلس الوزراء خالد عمر، ومستشار رئيس الوزراء ياسر عرمان، علاوة على الاجتماع بقادة الحراك المدني، قبل أن يعود للاجتماع مجدداً بالبرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك للمرة الثالثة خلال 3 أيام.
الاجتماع الذي استمرّ حتى منتصف الليل 23/10/2021، أي قبل ساعات من إعلان البرهان عن الانقلاب، قدم فيه فيلتمان اقتراحات للحلّ، منها نقل السلطة إلى المدنيين بحلول أيلول/سبتمبر القادم، على أن يتم استكمال إقامة المؤسسات، ومنها المجلس التشريعي، حتى الموعد المقرر.
هذه الاقتراحات أخذها حمدوك للتشاور مع القوى المدنية، وطلب مهلة لبحثها حتى 30 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لكن قرار البرهان بإعلان حالة الطوارئ والانقلاب لم ينتظر حتى ساعات قليلة بعد انتهاء الاجتماع، ما أثار غضب الأميركيين. ويقول فيلتمان إنَّه لم يتلقَّ أيَّ إشارة من البرهان عن نيّته بالانقلاب، فهل خدع الأخير ضيفه، ولم يخبره، ولو بإشارة، عن مخططه سلفاً، ما ضاعف من الغضب الأميركي؟
وفي 19/10/2021، قامت وزيرة الشؤون الأفريقية في وزارة الخارجية البريطانية، فيكي فورد، بزيارة الخرطوم أيضاً، ثم خرجت إلى الإعلام لتبدي إعجابها بالنشاط الشبابي والنشاط النسائي في السودان خلال عملية الانتقال الديموقراطي، معلنة رغبة بريطانيا في نقل السلطة كاملة إلى المدنيين، وتقديم مساعدات عاجلة لولايات شرقي السودان (التي تضم بورتسودان الاستراتيجي)، المحاذية للبحر الأحمر، لتهدئة الغضب الشعبي هناك.
وكان اللافت للانتباه صدور "موقف إسرائيلي مسؤول"، لكن غير رسمي، خلال الساعات الأولى، عبر موقع صحيفة "يسرائيل هيوم" الإسرائيلية، انتقد فيه الموقف الأميركي، ودعا إدارة بايدن إلى دعم البرهان وليس الحكومة المدنية برئاسة حمدوك، معلّلاً ذلك بأن الأول يدفع إلى التطبيع الفعلي. أمّا الأخير، فهو يعارض ذلك أو يعرقله.
ونقل الصحافي أرئيل كهانا عن ذلك المسؤول، قوله إن "حدوث الانقلاب كان لا بد منه، لأن زعيمَي التيارين المدني والعسكري، حمدوك والبرهان، وإن كانا متفقَين على ضرورة التقرّب إلى الغرب، إلا أنهما كانا يشدّان الحبال في اتجاهات متناقضة، وكان لا بد من الحسم"، وكأنّ هذا المسؤول يبرّر الانقلاب!
أمّا اتفاق تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، وخلافاً للتطبيع بين الأخيرة والإمارات والبحرين والمغرب، فهو متعثر، ويزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، على الرغم من الإعلان المبدئي بشأن تطبيع العلاقات في تشرين الأول/أكتوبر 2020، والذي صدر بتهديد وضغط أميركيّ (ترامبي) كبير، إلا أنه بقي حبراً على ورق، ولم تُعرف مضامينه بعدُ، لكنّ المعروف مما تسرَّب أن التقدُّم في التطبيع مشروط بشروط سودانية، منها محو أغلبية الديون الأميركية عن السودان، وتقديم دعم بمبلغ 700 مليون دولار، إضافة إلى مساعدته على الحصول على قرض من البنك الدولي بشروط مريحة، فضلاً عن محوه من قائمة الدول "الراعية للإرهاب"، بموجب المفهوم الأميركي.
ويبدو أن التعثُّر أو التباطؤ في تلبية الشروط السودانية، وخصوصاً بعد تبدل الحكم في البيت الأبيض، ساهم في تعثّر التطبيع أيضاً. بعيداً عن ذلك، يقول المطّلعون إن أحد الشروط التي وضعها حمدوك للتوقيع الرسمي على اتفاق التطبيع هو مناقشة الموضوع في البرلمان وإقراره رسمياً، ولا سيما أن الرأي العام السوداني يرفض التطبيع مع "إسرائيل".
من أجل التقدم في عملية التطبيع المتعثّرة، زار وفد عسكري سوداني "تل أبيب"، يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، برئاسة الفريق عبد الرحيم دقلو/حميدتي (قائد قوات الدعم السريع ونائب البرهان)، والفريق أول مرغيني إدريس سليمان (مدير منظومة الصناعات العسكرية الدفاعية)، وتبع هذه الزيارةَ لقاءٌ ثلاثي بين وزراء خارجية أميركا والإمارات و"إسرائيل" في واشنطن، تبادلوا خلاله الحديث عن أهمية توسيع عملية التطبيع لتشمل دولاً أخرى في المنطقة.
وفي 13 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، التقى وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي عيساوي فريج، يرافقه نائب وزير الخارجية عيدان رول، وزيرَ القضاء السوداني في أبو ظبي، على خلفية الضغوط الأميركية المتزايدة على السودان لتطبيع العلاقات مع "إسرائيل".
من جهته، أصدر مركز أبحاث الأمن القومي في "إسرائيل"، يوم 18/10/2021، تقريراً عن العلاقة بين "إسرائيل" والدول المطبّعة معها، بما في ذلك السودان، وأشار فيه إلى تعثُّر عملية التطبيع مع السودان في كل المجالات، بما في ذلك التجارية الأمنية والدبلوماسية، وأن أمل السودانيين خاب بشأن تحقيق الالتزامات الأميركية تجاه السودان في مقابل التطبيع، مشيراً إلى تباطؤ الإدارة الأميركية الجديدة في الإيفاء بالتزاماتها المادية تجاهه، الأمر الذي يعرقل المضي في عملية التطبيع. في المقابل، عندما يرى الشعب السوداني المردود الاقتصادي من الاتفاق مع "إسرائيل"، كما يقول معدّو التقرير، يسهل على القيادة السياسية تمرير الاتفاق في البرلمان.
رسمياً، تبحث "إسرائيل" عن مصلحتها فقط، وتمتنع حكومة نفتالي بينيت في الوقت الحاضر عن إبداء دعمها هذا الطرف أو ذاك، وتؤكد أن لا علاقة لها بالانقلاب، وتعترف بأن الرأي العام السوداني يرفض التطبيع مع "إسرائيل". بناءً عليه، أصدر مجلس الأمن القومي في 26/10/2021 توصية للإسرائيليين تقضي بعدم السفر إلى السودان أو البقاء فيه، على خلفية "تهديدات عينية ومخاطر واقعية" من استهداف الإسرائيليين هناك.
من متابعة التعليقات الإسرائيلية والردود غير الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي، يمكن فهم هذا التناقض بين الموقف الإسرائيلي العام وغير الرسمي المؤيّد للبرهان، والموقف الأميركي المستاء من انقلاب البرهان على شركائه المدنيين.
لقد فوجئت أميركا بالخطوات التي اتخذها البرهان بعد ساعات قليلة من اجتماعه بفيلتمان بمشاركة حمدوك. ولو لم يصدر موقف أميركي واضح وصريح ضد البرهان ومؤيد للحكومة المدنية، لكان السودانيون وغيرهم سيظنون أن فيلتمان أعطى الضوء الأخضر للبرهان، وإلا لَما تجرّأ على القيام بالانقلاب.
ولو لم تعلن بريطانيا موقفاً واضحاً ضدّ البرهان، وتطالبه بتحرير المعتقلين وإعادة الحكومة، برئاسة حمدوك، من أجل ممارسة مُهماتها، لاعتقد السودانيون أن الوزيرة البريطانية فيكي فورد أعطت الضوء الأخضر للبرهان من أجل القيام بالانقلاب.
ويبقى السؤال: هل فهم الوفد العسكري السوداني الذي زار "تل أبيب"، يوم الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، أن الانقلاب على حمدوك أمر لا مفر منه؟ وهل حمل الوفد رسالة إسرائيلية إلى البرهان في هذا الشأن، واعتقد البرهان أن "إسرائيل" ستضمن له موقفاً أميركياً إيجابياً؟ لا جواب في الوقت الحاضر.
لكن الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة، بإدارة بايدن، لا تقبل المفاجآت من حلفائها، بما في ذلك البرهان، وفي الوقت ذاته تضع رؤيتها قبل الرؤية الإسرائيلية، وهذا ما تفهمه حكومة بينيت جيداً؛ ففي حين كان ترامب يستخدم كلّ وسائل التهديد والضغط من أجل تركيع الأنظمة العربية أمام "إسرائيل"، والتوقيع على اتفاقيات تطبيع مُذلة معها، وهو ما يرغب فيه الإسرائيليون ويعتبرونه النهج الأفضل للتعامل مع العرب، ترى إدارة بايدن، بناءً على تجربتها المريرة، أن الاعتماد على الأنظمة العسكرية، في ظل معارضة شعبية واسعة وحراك مدني يصبو إلى الديمقراطية، ولا يعادي الغرب، مثلما هو الحال في السودان، لا يتناسب مع الاستراتيجية الأميركية.
وبناءً عليه، تُفضّل أميركا دعم الحراك المدني، وان كان منقسماً على نفسه ويتطلب جهداً إضافياً لتوحيده، على حساب العسكر، حتى لو تعثر التطبيع مع "إسرائيل" لوقت أطول أو طال انتظاره، فإدارة بايدن ليست متحمسة لتقديم "الوجبات" لـ"إسرائيل" من دون ثمن، أو أن تكون "الوجبات" على حساب أميركا، لأن لديها رؤية دولية أوسع من الرؤية الإسرائيلية التي تهتم بمصالحها قبل كل شيء.
وإذا كان الانقلاب سيفتح طريق التطبيع، فهذا ليس مضموناً من وجهة النظر الأميركية، بل قد يعقده، لكنّه قد يكون الخطوة الأولى التي ستتبعها خطوات معاكسة تنتهي بالتطبيع. وعليه، ما على "إسرائيل" إلا الانتظار.