المصالحة التركية - السورية.. في مهب الرياح الشمالية الشرقية
ترشح المعطيات المعقدة في الأزمة السورية أنها ستنتقل إلى مرحلة أكثر تعقيداً وبرضى الرئيس إردوغان، الذي يعتقد أن هذا التعقيد سيكون لمصلحته وسيزيد قوة أوراق المساومة التي يملكها في سوريا والعراق وليبيا.
خلافًا للرئيس إردوغان لم يتحدث الرئيس الأسد عن احتمالات المصالحة مع أنقرة، ويعرف الجميع أنها الطرف الأهم إن لم نقل الوحيد الذي يستطيع أن يقرر مصير الأزمة السورية.
وخلافاً لتصريحاته السابقة التي تحدّث فيها عن احتمال مصالحة الرئيس الأسد عبر الوساطة الروسية، سلك الرئيس إردوغان تكتيكاً جديداً في تصريحاته، الأسبوع الماضي، إذ قال "إنه هو الذي طلب إلى الرئيس بوتين أن يجمعه بالرئيس الأسد بعد سلسلة من اللقاءات بين مسؤولي الاستخبارات ووزراء الخارجية والدفاع"، وذلك في مناورة جديدة منه لقطع الطريق على الضغوط الداخلية والخارجية التي تهدف إلى إنهاء الأزمة السورية.
وبغياب المعلومات من الجانبين السوري والروسي فيما يتعلق بسير عملية الوساطة الروسية، فقد شهد الإعلام التركي نقاشاً مثيراً في هذا الموضوع، إذ اتهم الإعلام الموالي لإردوغان زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو "بالتآمر على بلده"، وذلك من خلال رسالة بعث بها إلى الرئيس الأسد داعياً إياه إلى عدم مصالحة إردوغان وانتظار الانتخابات المقبلة، واعداً إياه بسحب الجيش التركي من الشمال السوري والتعويض المادي على دمشق في حال تسلّمهم السلطة.
مصادر الشعب الجمهوري كذّبت هذه المعلومات وقالت "إن دمشق لم تهتم بالطلب الذي تقدم به مستشار كمال كليجدار أوغلو لزيارة سوريا ولقاء المسؤولين السوريين"، وهذا ما قاله مستشار زعيمة "الحزب الجيد" ميرال أكشنار الذي "استغرب بدوره موقف دمشق هذا في الوقت الذي هي فيه بأمس الحاجة إلى التضامن التركي معها ضد سياسات الرئيس إردوغان".
ويعرف الجميع أن إردوغان لا يريد أن تستغل المعارضة قضية اللاجئين السوريين بكل تبعاتها في الحملة الانتخابية التي استنفر من أجلها كل إمكانيات الدولة التركية بعد أن اضطر إلى مصالحة الرياض والقاهرة وأبو ظبي و"تل أبيب"، ناسياً كل ما قاله عن زعمائها في السنوات الماضية.
في الوقت الذي يعرف فيه الجميع أن إردوغان لا ولن يلقي أي خطوة عملية على طريق المصالحة مع الرئيس الأسد، إلا بعد أن يتعرض لضغوط جادّة من العواصم العربية التي يعرف جيداً أيضاً أنها ما زالت ضد دمشق لأسباب معروفة لدى الجميع، وأهمها التحالف السوري مع إيران وحزب الله.
كما أن إردوغان لا ولن يستعجل السير في خطوات عملية لمصالحة الرئيس الأسد ما دام لا يتعرض لضغوط جادّة من الرئيس بوتين. والرأي السائد في الشارع التركي هو أن موسكو تدعم إردوغان وتقدّم له كل مساعدة مالية (موسكو تبيع الغاز لتركيا بالدين المؤجل إلى عام 2024) لضمان بقائه في السلطة، وهو ما تسعى من أجله أبو ظبي والرياض والدوحة التي تتسابق لتغطية العجز الكبير في المصرف المركزي التركي واحتياطياته من العملات الصعبة، بعدما زاد على 60 مليار دولار.
ولم يهمل إردوغان خلال هذه الحسابات العنصر الكردي داخلياً وسورياً وإقليمياً ما دام حزب "الشعوب الديمقراطي"، وهو الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، من سيقرّر مصير الانتخابات التي سيفوز فيها المرشح الذي سيصوت له الناخبون الكرد، وعددهم نحو 6 ملايين ناخب.
والأهم من كل ذلك أن عواصم في المنطقة وخارجها وأهمها واشنطن وضعت عدداً من الحسابات من أجل هؤلاء الكرد ما داموا سيتحركون وفق تعليمات حزب العمال الكردستاني، ويعرف الجميع أن له حسابات كثيرة في سوريا وشمالي العراق، والآن في غربي إيران، وهو ما يحظى باهتمام واشنطن وحليفاتها في المنطقة وخارجها، إن لم نقل بدعم مباشر أو غير مباشر.
وترى أنقرة في الوجود الأميركي والغربي والإسرائيلي في شرق الفرات عنصراً إضافياً يدعم حساباتها في مساومة دمشق التي لا تريد أن تبقى بين فكي الكماشة التركية من الشمال والأميركية من الشرق. وهو ما سيمنعها من المساومة الجادة مع الرئيس إردوغان ويعرف الجميع أنه لا يفكر في الانسحاب من سوريا إلا في إطار صفقة إقليمية ودولية تلبي كل شروطه ومطالبه، وأهمها ضمان بقائه في السلطة.
وترشح كل هذه المعطيات المعقدة الأزمة السورية إلى مرحلة أكثر تعقيداً وبرضى الرئيس إردوغان، الذي يعتقد أن هذا التعقيد سيكون لمصلحته وسيزيد قوة أوراق المساومة التي يملكها في سوريا والعراق وليبيا وعبرها معاً في المنطقة عموماً. وقد تشجع هذه المعطيات الرئيس إردوغان على رفض مطالب الرئيس الأسد وشروطه، وتلبيتها ليست سهلة أبداً، إذ ستفقد إردوغان أهم عناصر القوة التي حقّقها في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد الموافقة الروسية الأميركية على دخول القوات التركية سوريا في 24 آب/أغسطس 2016.
وهذا التفوق العسكري والنفسي كان كافياً بالنسبة إلى إردوغان لاستغلاله في بسط سيطرته على ليبيا والصومال والعراق، وهو ساعده كذلك على فرض الرؤية القومية التركية التاريخية في الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي الحديقة الخلفية لروسيا التي تجد نفسها الآن مضطرةً إلى مراقبة الدور التركي في هذه الجمهوريات.
ويحظى كل ذلك برضى، إن لم نقل بتشجيع غير مباشر من واشنطن التي سترحّب بكل من يزعج موسكو التي يعرف الجميع أنها لا تريد إزعاج الرئيس إردوغان، على الرغم من كل مواقفه "المرضية" للرئيس بوتين، خصوصاً في الحرب الأوكرانية. ويبدو واضحاً أنها تمنع موسكو من الضغط على أنقرة للمصالحة مع دمشق وفق الشروط والمطلب السورية، ومن دونها لن يكون سهلاً على الرئيس الأسد لقاء الرئيس إردوغان وإقناع الشعب السوري بذلك مع استمرار التدخل التركي في كل صغيرة وكبيرة في سوريا، وسبق أن قال إردوغان إنها "شأن تركي داخلي"!