أستراليا "الثمينة" بين أميركا والصين.. "أوكوس" يصدّع "الناتو"
يخدم حلف "أوكوس" استراتيجية سلاح البحرية الأميركي، ومن أبرز أركانها السيطرة على "نقاط الاختناق" في الممرّات البحرية العالمية.
-
"أوكوس" يصدّع "الناتو"
دشّنت واشنطن حربها "الفاترة" مع الصين رسمياً، بإعلانها تشكيلَ حلف ثلاثي جديد مع دول ساكسونية: بريطانيا وأستراليا، إلى جانب الولايات المتحدة، أطلقت عليه "أوكوس"، بعد طول تحشيد المحاور التقليدية، واستحداث سياسات العداء.
بتشكيله، يستكمل الحلف الجديد استراتيجيةَ واشنطن القائمة على النفخ في سردية وجود عدوّ رئيسي لهيمنتها العالمية، وفي سياق مشابه لاستحداثها حلفَي "الناتو" والتحالف الاستخباري "خمسة إي"، أي الدول الخمس الناطقة بالإنكليزية، وضمّ نيوزيلندا وكندا إلى دول الحلف الثلاثي، الأول في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية وبدئها حرباً "باردة" مع المنظومة الاشتراكية السابقة، والاتحاد السوفياتي في مركزها، والثاني خلال الحرب العالمية الأولى.
ظاهرتان تمثّلان تطورين سياسيَّين رافقا إعلان الحلف "الساكسوني"، بل سبقا إعلانه الرسمي، وتتعلّقان بأوروبا، موطن حلف "الناتو". الأولى هي تعثُّر سياسة أميركا، وربما فشلها، في عزل روسيا وتحشيد دول الحلف للاستمرار في حرب باردة ضد موسكو، أو على الأقل عدم منحها تسهيلات وتبادلات تجارية. والثانية هي عدم انتظام نيوزيلندا في الاصطفاف، وربما خروجها منه، مع توجُّهات إقليمية معادية للصين، جسَّدتها في إعلانها عدم السماح للغواصات النووية الأسترالية بدخول مياهها الإقليمية، متشبّثة بسياستها المعلَنة في عام 1984، من أجل المحافظة على "خلوّ المنطقة من الأسلحة النووية".
جدير بالذكر أيضاً أن "تراجُع حماسة" دول حلف "الناتو" عن دعم السياسات الأميركية، بعد "خروج واشنطن الفوضوي" من أفغانستان، كما وصفته دول "الناتو"، جاء ليعبّر عن عزوف الرأي العام في أوروبا عن المغامرات العسكرية خلف أميركا، وأُولى ضحاياه استقالة وزيرتين تباعاَ في حكومة هولندا: وزيرة الخارجية سيغريد كاغ (التي تتقن العربية)، ووزيرة الدفاع أنك بيليفلد، على خلفية فوضى إجلاء الرعايا من كابول.
تشكيل حلف "أوكوس" يأتي على خلفية خدمة استراتيجية سلاح البحرية الأميركي، والتي من أبرز أركانها السيطرة على "نقاط الاختناق" في الممرّات البحرية العالمية. أمّا توقيته الزمني، فهو عبارة عن رسالة عقاب إلى أوروبا، وخصوصاً ألمانيا وفرنسا، بسبب رفضهما استمرارَ نزعة العداء لروسيا وشن حرب باردة جديدة عليها.
تصريح البيت الأبيض، فيما يتعلق بغرض الحلف، أكّد أنه "ليس تعزيز قدراتنا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ فحسب، بل من أجل تقريب أوروبا، ولاسيما المملكة المتحدة، من جهودنا الاستراتيجية، وتعزيز التعاون بين القوات البحرية للدول الثلاث" (كما نقلته قناة "الحرة" الأميركية).
عضوية أستراليا في حلف "أوكوس" الجديد ستخوّلها بناء أسطول من 8 غواصات "تعمل بالطاقة النووية، وتزويد الولايات المتحدة (لها) بتكنولوجيا وقدرات تمكّنها من نشر غواصات" نووية في مياه المحيطات، إلى جانب توفير تِقْنيات متطورة أخرى، وخصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي وتقنيات الكمية "لمواجهة النفوذ الصيني" (بحسب تقرير شبكة "بي بي سي" البريطانية، 16 أيلول/سبتمبر الجاري).
العدو التاريخي للتاج البريطاني، فرنسا، كانت الخاسر الأكبر من تشكيل الحلف. وأعربت عن "خيبة أمل كبيرة" بسبب تهميش دورها من جانب واشنطن ولندن "على الرغم من وجود جُزُر فرنسية في منطقة المحيط الهادئ"، وكذلك نتيجة إلغاء أستراليا اتفاقيةً كانت أبرمتها معها في عام 2016 لبناء أسطول من 12 غواصة تعمل بالديزل والكهرباء، لمصلحة البحرية الأسترالية، قيمتها الأولية 40 مليار دولار، وصف وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، فَسْخَ أستراليا لها بأنه "طعنة في الظهر".
الصين، من جانبها، ردَّت على حلف "أوكوس" عبر سفارتها في واشنطن، كونها محرك العداء لها، مطالبة "الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا بالتخلص من عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجي". ونبّهت وسائل إعلامها أستراليا إلى أنها "تَمْضي قُدُماً في خطوات كبيرة نحو معاداتها الصين".
المعارضة الأشد للحلف الجديد أتت من رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، بول كيتنغ، عبر انتقاده اللاذع سياسات بلاده الملحَقة بواشنطن، وخشيته من فقدانها سيادتها الوطنية، بحيث تصبح "معتمدة مادياً على الولايات المتحدة، التي سلبت من أستراليا أيَّ مظاهر في حرية الخيار، في أي انخراط لها قد تراه ملائماً" (مقابلة له مع شبكة "سكاي نيوز أستراليا"، 16 أيلول/سبتمبر الجاري).
وذكّر كيتنغ واشنطن بحجمها في منطقة المحيط الهادئ، قائلاً "الصين قوة قارّية، بينما الولايات المتحدة قوة بحرية". وأضاف "أن الأرض تتغلّب على البحر في كل مرة" في زمن الصراعات، و"خصوصاً بين القوى العظمى".
حقائق الجغرافيا
تحيط بالصين شواطئُ مترامية الأطراف، لكنها ضحلة الأعماق، الأمر الذي يستدعي تطويرها تِقْنياتٍ ومواردَ أخرى للوصول إلى أعماق البحار، بعيداً عن سلسلة الجزر القريبة، وهي: اليابان، تايوان، الفليبين وماليزيا.
الممرات البحرية التقليدية لدخول أعماق مياه المحيط الهادئ تقع بين اليابان وتايوان، وتجوبها دوريات يابانية بأسلحة مضادة للغواصات، وكذلك الأمر في الممرات الأخرى التي تضم الفليبين وماليزيا.
أسطول البحرية الأميركية، والأسطول البريطاني المساعد، ينشطان في تلك المنطقة أيضاً، من أجل تشديد الرقابة على "الممرات الخانقة"، لكنها منطقة شاسعة جغرافياً، وتصعب مراقبتها من طرف بمفرده. بناءً عليه، حظيت استراليا باهتمام ملموس منهما، لاعتبارها "قوة إقليمية" في أرخبيل جنوبي المحيط الهادئ، ولديها علاقات تجارية واسعة بدول المنطقة.
من خلال تلك الميّزات الإقليمية، وامتلاكها قدرات برمائية معتبرة، يتعاظم دور أستراليا لدى الحلف في مراقبة "الممرات الخانقة" التي ستجوبها قِطَعُها البحرية من أجل زرع مجسّات صوتية فيها لتطويق حرية الملاحة الصينية في أعماق المحيط الهادئ، أو تعطيلها.
ما لدى الصين من إمكانات وأسلحة بحرية عَرَضَه معهد أبحاث الكونغرس، "خدمة الكونغرس للأبحاث"، وقال إن لديها "46 غواصة تعمل بالديزل والكهرباء، و6 غواصات هجومية نووية، و4 غواصات نووية أخرى قادرة على التسلُّح بصواريخ باليستية تحمل رؤوساً نووية"، وذلك لغاية نهاية عام 2020.
أمّا سلاح البحرية الأسترالي، بحسب المعهد، فلديه أسطول من 6 غواصات دخلت الخدمة في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي، وصُمِّمت على نسق البحرية السويدية.
وأغفَل معهد أبحاث الكونغرس الإشارةَ إلى حجم الحشود العسكرية الأميركية في "بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، ومضائق تايوان، وحزام أسلحة استراتيجية مُطْبِق حول الصين، وقدرات تجسّسية ومراقبة، وتطويقها بنحو 400 قاعدة عسكرية" في المنطقة، فضلاً عن نيات واشنطن نَشْرَ "صواريخ نووية متوسطة المدى تغطّي غلاف الأراضي الصينية" (بحسب الأدبيات العسكرية ومراكز الأبحاث الأميركية).
يُعتبر بحر الصين الجنوبي ممراً استراتيجياً بالنسبة إلى واشنطن، و"نقطة اختناق" للصين. تمر عبره تجارةُ الصين الضخمة مع العالم، والتي تُقَدَّر بنحو 5.3 تريليونات دولار سنوياً، ويشكّل ممراً حيوياً للطاقة المستوردة بنسبة 77% من حاجاتها. وبحسب البيانات الواردة، ليس من الضروري أن تخوض الولايات المتحدة حرباً مع الصين، بل يكفي عرقلة خطوط التجارة البحرية وتعطيلها، من أجل إنهاك الاقتصاد الصيني (دليل وزارة الدفاع الأميركية، "تقرير عن القوة العسكرية الصينية"، ص 133، أيلول/سبتمبر 2020).
يشار إلى تطور سردية التهديد الأميركية في تلك المنطقة، إذ بدأت بمقولة إنها ليست طرفاً في منطقة بحر الصين الجنوبي، لكنها مَعْنِية بحماية "حرية الإبحار"، ثم تصاعدت بالتدريج للنفخ، من زاوية حصار الصين وخنقها اقتصادياً وقرصنة سفنها عبر أدوات/أطراف متعاقدة أخرى (دراسة "أَطْلِقوا العنان للقرصنة الخاصة"، والصادرة عن "معهد البحرية الأميركية"، نيسان/أبريل 2020).
صوَّب رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، بول كيتنغ، سِهامَ انتقاده على بلاده والولايات المتحدة، مسترشداً بخطة الخروج الفوضوي من أفغانستان، قائلاً "إذا كانت القوة العسكرية الأميركية الهائلة غير قادرة على إلحاق الهزيمة بحفنة من متمرِّدي طالبان، مسلحين ببندقية AK-47 (الروسية)، على ظهر حافلات مفتوحة، فماذا ستكون حظوظها في حال نشوب حرب شاملة ضد الصين؟".
أجرت جامعة هارفارد العريقة دراسة أُخرى عن الصين، تبيَّنت فيها ميزات التفوق على الولايات المتحدة، نقتطف منها: 80% من الكادر القيادي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني هم ذوو اختصاص علمي أو في مجالات الهندسة. وتتفوّق الصين في عدد براءات الاختراع المسجَّلة، وكذلك في الأبحاث العلمية، وتحتلّ مركزا متقدماً عالمياً في مجالات الذكاء الاصطناعي، والروبوت، وحسابات الكمية (كوانتم)، وتقنية 5G، والقطارات السريعة، والإنتاج الصناعي المتطوّر، وإنشاء مدن صديقة للبيئة، وإعادة التشجير (كلية كنيدي في هارفارد "مركز آش للحوكمة الديموقراطية والإبداع"، تموز/يوليو 2020).
الصين ترسل رسائل عالمية مُطَمْئِنة، ومفادها أنها لا ترغب في دخول حرب مع أحد، وتعارض الهيمنة بشدة. في المقابل، فإن الخطاب الأميركي والاستراتيجية المتّبعة، في ولاية الرئيس جو بايدن، ينشدان التصعيد المستمرّ، واستفزاز الصين وتهديدها، وإحاطتها بمئات القواعد العسكرية والأسلحة النووية، كما أسلفنا. وهي سياسة تُكمل ما سبقها من توجُّهات أميركية، من الحزبين، مناوئة لإنجازات الصين ومنافستها الشديدة لموقع أميركا الاقتصادي.