منبر المحافظين الجدد ينهار أمام ترامب

تتمتع المنابر الإعلامية الناطقة بلسان أو الداعمة للتيارات المحافظة في أميركا بوفرة الدعم المالي المتاح والذي لا يأتي عادة من رصيد الإعلانات، كما هو متوقع، بل من جيوب كبار الأثرياء، بعضهم معروف للعامة وبعض المصادر مبهمة الأصل.

التغيرات المتسارعة على الساحة الدولية وفشل المغامرات العسكرية الأميركية أربكت حسابات التيار المحافظ بجناحيه

أعلنت اسبوعية ويكلي ستاندارد، مطلع الأسبوع الجاري، عن اغلاق أبوابها في الفترة القريبة المقبلة، أو تقليص مدى أعمالها بشكل أدق، وهي أحدى أبرز المنابر الإعلامية للمحافظين الجدد برزت إلى الصدارة لاحتضانها كبار "مستشاري" إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، ودفاعها الثابت والمستميت عن سياسات الإدارة الرسمية ولا سيما في الحرب الأميركية على العراق، معللة في عام 2005 بأنها "حرب ينبغي أن تدخل الشعور بالفخر" عند الأميركيين.

وعلى الرغم من هويتها المعلنة كمنبر للمحافظين الجدد وسجلها الثابت في دعم الحروب الأميركية المتعددة، إلا أن ناشرها ورئيس تحريرها المحافظ، بيل كريستول، اتخذ مواقفاً مناوئة للرئيس ترامب وانضم لفريق إعلامي متواضع من "لسنا مع ترامب مطلقاً،" واعتلى جملة من المنابر الإعلامية الكبرى محرضاً ضد سياسات الرئيس ترامب.

تأسست المجلة عام 1995 برئاسة "بيل كريستول" و "فرِد بارنز،" واستطاعت خلال فترة زمنية قصيرة التربع على "امبراطورية إعلامية للمحافظين الجدد"، وأيدها معظم المحافظين الجدد نال كتابهم مكافآت مالية مجزية. بيد أن ذلك لم ينعكس على حجم توزيعها المتواضع الذي لم يتعدى 72 ألفاً في عموم الأراضي الأميركية، وفق البيانات الرسمية، وهي نسبة لا تبشر بمستقبل واعدٍ لنشرة تعبر عن أحد التيارات السياسية الرئيسة والمؤثر بصورة مباشرة على آلية ودوائر صنع القرار السياسي.

المؤسسة الأميركية المختصة بالتدقيق في توزيع المنشورات للمؤسسات التجارية وغير الربحية على السواء، BPA Worlwide، أفادت بأنه منذ دخول الرئيس ترامب للبيت الأبيض تراجعت أعداد المشتركين بالمجلة لنحو 7 آلاف مشترك، تقارب 10% من مجموع المشتركين.

المصطلح "لسنا مع ترامب مطلقاً" أضحى يتردد على لسان كبار قادة الحزب الجمهوري. وصرح السيناتور جيف فليك، مطلع العام الجاري، بأن يعبر عن حالة الإحباط من الرئيس ترامب بين صفوف المحافظين في الحزب الجمهوري، باعتباره "عامل يفسد التيار المحافظ الحقيقي عبر اسلوبه المستبد، وسياسته الخارجية الإنزوائية، وافتقاره التحلي بمسؤولية التصرف المالية، ومعارضته للاتجار بحرية".

المؤسسة الأم والناشر للمجلة، ميديا دي سي، تصدر أيضاً نشرة موازية من إعلام المحافظين الجدد، واشنطن إيكزامينر، شبه الناطقة بلسان الرئيس ترامب، وقرارها الخاص بإطلاق الأسبوعية المذكورة نجد أن الممول والداعم الرئيس لكلتاهما هو الملياردير فائق الثراء (فيليب آنشوتز) الذي يملك جملة من المؤسسات التجارية في قطاعات متعددة بينها الإعلام والعقارات والطاقة وسكك الحديد وصناعة الأفلام ودور السينما والنوادي الرياضية، تبلغ ثروته ما ينوف عن 11 مليار دولار، وفق مجلة فوربز، 12 من شهر ديسمبر الجاري.

في سياق التدقيق بدوافع الناشر إعلاء فريق من المحافظين على آخر، يخبرنا المحرر السياسي السابق لأسبوعية "ذي ايكزامينر،" جيم آنتيل، أن الحراك الناجم عن "إغلاق" ويكلي ستاندارد يعكس في بعده الأشمل الاصطفافات الأوسع الجارية داخل صفوف الحزب الجمهوري، أذ بينما "تناهض النخب (السياسية والفكرية) توجهات الرئيس ترامب، فإن قواعد الحزب تؤيده بشدة".

وعليه، وفق آنتيل، فإن التحدي المطروح أمام تيار المحافظين الجدد يتمثل في ".. نشرة تعبر عن توجهات المحافظين ولا تؤيد رئيس الحزب الجمهوري الحالي، ومن ثم نشهد صراعاً داخل تيار اليمين بمجمله بين فريق يدافع عن الرئيس مهما كان الثمن وفريق مقابل راضٍ عن معظم النتائج التي حققها، لكنه شديد القلق منه في المحصلة العامة".

توجهات الأسبوعية المذكورة تؤشر أيضاً على ما طرأ من تغيير في عموم التيار المحافظ في عهد الرئيس ترامب، وتبسيطه المخل للأحداث العالمية التي تستدعي التحلي بسياسات ضبط النفس والابداع في سبل التوصل لتحقيق أهداف ملموسة في المدى المنظور.

الحاضنة الفكرية للتيار المحافظ في السياسة الأميركية تجسدت في شخص المفكر والمؤلف ويليام باكلي، المتوفى عام 2008، وينسب له الفضل في تأسيس اسبوعية ناشيونال ريفيو كمنبر فكري لنشر أفكاره واستقطاب مؤيدين له من بين النخب.

الجيل الحالي من المحافظين الجديد مدين لباكلي بالإنجازات التي حققها في أزيد من 6 عقود من الحياة السياسية الأميركية، واعتباره "الأهم والأفضل بين الشخصيات الفكرية في الولايات المتحدة وشخصية مرجعية عظيمة،"وميزته الرئيسة في الجمع بين تياري المحافظ التقليدي والليبرالي النموذجي، مما أرسى أرضية تحول الحزب الجمهوري "إلى اليمين"، كما شهدته الساحة من صعود شخصيات بارزة ومثيرة للجدل، كالسيناتور العنصري باري غولدووتر، واليمين "المنفتح" كالرئيس الأسبق رونالد ريغان.

التيارات الدعوية والدينية في المجتمع الأميركي رأت في الحزب الجمهوري ضالتها كحاضنة سياسية باستطاعتها التأثير في توجهاته لصالحها.

وبالتزامن مع اشتداد عود المعارضة الشعبية والأممية للحرب الأميركية على فييتنام، في عقد الستينيات من القرن الماضي، لجأ أنصار التيار المتشدد لاستحضار وتبني "القضايا الدينية" وادخالها في الخطاب السياسي، وانتشرت تدريجياً منظومة "قراءة الإنجيل والصلاة الجماعية في المدارس العامة"، مما أثار موجة خلافات جديدة حول التمويل العام لقطاع التعليم وانتهاك المتدينين لأحد أهم أعمدة "الديموقراطية" الأميركية – فصل الدين عن الدولة.

ذاك التحول أثار الذعر بين أوساط المحافظين التقليديين، وتوجهاتهم العلمانية بشكل عام، والخشية من "التحول الديني" في بوصلة التوجهات السياسية المحافظة، وهو ما نشهده هذه الأيام في صراع التيار المؤيد للرئيس جورج بوش الإبن وما يمثله من امتدادات في الحزب الجمهوري وبين مؤيدي الرئيس ترامب "وسياساته الإنعزالية." ونال ويليام باكلي وسام الحرية الرئاسي من الرئيس جورج بوش الأب، 1991، تقديراً لجهوده في بلورة ومأسسة التيار المحافظ.

اللافت في معتقدات ويليام باكلي خصومته مع تيار المحافظين الجدد – معسكر الحرب في الإدارات الأميركية المتعاقبة. وقال معارضاً للحرب على العراق ".. حقيقة الأمر أن شن عمليات خارجية لتغيير نظم الحكم في بلدان تنقصها وثيقة الحقوق الأساسية أو (تخلو) من الإرث الديموقراطي ستكون شديدة القسوة .. لآ يمكن لإمريء الشك في فشل الهدف الأميركي في العراق".

بيد أنه لم يلجأ لإقصائهم قائلاً عام 2004 أن المحافظين الجدد ".. أولئك الذين أعرفهم، وهو الغالبية، أذكياء وذوي اطلاع ومثاليين، لكنهم ببساطة يبالغون في نشر القوات الأميركية ونفوذها". وفيما يخص الرئيس ترامب وصفه عام 2000 دون معرفة سابقة بأنه "ديماغوجي عاشق لذاته".

صعود رونالد ريغان على المسرح السياسي الأميركي اعتبر تجسيداً "لمذهب المحافظين العصريين" وتحقيقاً لوعودهم، لا سيما وأن ريغان كان يقرأ ما ينشره باكلي باستمرار، واستطاع أدخال مفاهيم المحافظين إلى مفاصل الحزب الجمهوري الرئيسة، عقب هزيمة مرشح التيار العصري "الواقعي" الذي مثله جورج بوش الأب.

الإرهاصات السياسية في صفوف الحزب الجمهوري والمجتمع الأميركي بشكل عام أوصلت أشد التيارات تطرفاً إلى التحكم بصنع القرار، ونشر القوة العسكرية في مناطق مختلفة من العالم، واستأنفت الحروب العدوانية على خلفية التأكيد على القطب الأوحد وصاحب القرار النهائي في العالم.

التغيرات المتسارعة على الساحة الدولية، وفشل والمغامرات العسكرية الأميركية، أربكت حسابات التيار المحافظ بجناحيه، وعمد إلى استحضار خطاب القديم – الجديد القائم على "تقليص حجم ودور الحكومة المركزية" في المجتمع. فالرئيس ريغان اعتبر الهيكل الحكومي بأنه أس المعضلة التي تواجه أميركا وليس حلاً، بينما اعتبر الرئيس ترامب تلك الهيكلية بائدة شبهها بمستنقع ينبغي تجفيفه.

النتيجة العامة لتلك المقاربات لم تسفر عن اجتراح حلولاً لمشاكل ومعضلات تزداد تعقيداً، سواء على الصعيد الداخلي أو في المشهد العالمي الأوسع. واحتمى الرئيس ترامب ومناصريه خلف الإرث السابق للتيار المحافظ والمطالبة مرة أخرى بتقليص حجم ودور الحكومة المركزية، باستثناء المهام الأمنية والعسكرية والتسليح.

تفاقم الأزمة الاقتصادية، على الصعيد الداخلي بالتحديد، وعجز المؤسسة الحاكمة عن المواجهة الحقيقية لسلم العقبات المتصاعدة تدفعها نحو التوجه لمزيد من المغامرات العسكرية، سواء محدودة أو أبعد من ذلك. وما نشهده راهناً من "حرب اقتصادية" متبادلة بين القوى الكبرى يعيد إلى الأذهان الأزمات العمالية التي طبعت حقبة الرئيس رونالد ريغان، وإفلاس المصارف والمؤسسات المالية عام 2008، وتراكم العجز ليس المالي فحسب، بل في المستوى السياسي، يقود المرء للقول أننا أمام حقبة إرهاصات وتحركات جديدة، يسعى فيها التيار المحافظ والمسيطر على مراكز القوى إلى "الاستمرار في الوصفات الراهنة – تقليص الإنفاق الحكومي على المرافق الأساسية والبرامج الاجتماعية - وما سينجم عنها من معارضة ومفاقمة الأوضاع الاقتصادية مرة أخرى.