ما هو الدور الذي تسمح به الدول الغربية لتركيا في المنطقة؟
لغة المناوشات وحرب التصريحات بين الأتراك ونظرائهم الغربيين من حينٍ إلى آخر تكشف عن حقيقة الصِراع المكتوم حول الدور المسموح به للأتراك إقليمياً ودولياً. في هذا السياق يمكن قراءة الخط البياني المُتعرِّج للعلاقات الأميركية التركية.
في مقالٍ كتبه لصحيفة "لو فيغارو" الفرنسية، بمناسبة الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، أعرب الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان عن رفضه إجراء تقسيمات "سايكس بيكو" جديدة في المنطقة، داعياً إلى مُكافحة التنظيمات الإرهابية مثل داعش و"بي كا كا" وتنظيم فتح الله غولن.
مقال إردوغان المنشور عشيّة لقائه بالرئيس ترامب من ناحيةٍ وبعددٍ من القادة الأوروبيين من ناحيةٍ أخرى في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يكشف عن مدى القلق التركي من مُجريات التطوّرات الهائِلة التي تضرب الشرق الأوسط، في رسالةٍ شديدةِ التعبير عن حجمِ انعدامِ الثقةِ والمرارةِ التي يتجرَّعُها الأتراك من سياسات حلفائهم الغربيين ، التي على ما يبدو تحمل أضراراً شديدة للمصالح التركية في المنطقة، وتهدّد كيانها كدولةٍ مستقلّةٍ طامِحة.
كلام إردوغان ككلام نائب رئيس الحزب الحاكِم نعمان قورطلموش الداعي إلى تشكيل نظامٍ عالمي جديدٍ، يكون للمسلمين فيه صوت مسموع ضمن أعضاء مجلس الأمن الدائمين، يأتي مُتمِّماً لسياقٍ عامٍ تعيشه النُخبة الحاكِمة في هذا البلد الصاعِد اقتصادياً وعسكرياً، والطامِح للعب دورٍ في محيطه الإقليمي الممتد من آسيا الوسطى وحتى قلب أوروبا ونزولاً إلى أفريقيا مروراً بالعالم العربي.
هذا الدور الذي تعتبره تركيا حقّاً تاريخيّاً لها وتستعجل إعادة شغله، لا يبدو أن الحلفاء الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، يجدون تركيا الحديثة جديرة به حتى اللحظة. ومن مؤشِّرات الرّفض الغربي والتشكيك بالموقف التركي التعاطي باستخفافٍ مع الوفد التركي في مؤتمر باليرمو في إيطاليا حول الأوضاع الليبية، ما أدَّى بالوفد التركي إلى الانسحاب من المؤتمر. أو تلميحات وزير الخارجية الفرنسي بأن لدى إردوغان لعبة سياسية يريد أن يلعبها حين سُئِل عن مضمون ما تسلّمته الاستخبارات الفرنسية من تسجيلاتٍ حول مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.
لغة المناوشات وحرب التصريحات بين الأتراك ونظرائهم الغربيين من حينٍ إلى آخر تكشف عن حقيقة الصِراع المكتوم حول الدور المسموح به للأتراك إقليمياً ودولياً. في هذا السياق يمكن قراءة الخط البياني المُتعرِّج للعلاقات الأميركية التركية.
فلم تكن العلاقات التركية الأميركية على ما يُرام خلال السنوات السبع الفائِتة. من شراكةٍ استراتيجيةٍ عشيّة العام 2011 إلى شبهِ انهيارٍ تامٍ عقب الانقلاب العسكري الفاشِل عام 2015. على استحياء كانت وسائل الإعلام المملوكة للدولة التركية تغمز من قناة الأميركيين وتتّهمهم بالتورّط في عملية الانقلاب الفاشِلة. لم يجرؤ الأتراك على اتّهام واشنطن مباشرة في الانقلاب، إلا أنهم أبدوا استياءهم الشديد من تعاطي البيت البيض مع عملية الانقلاب، وفي حماية غولن ورفض تسليمه لأنقرة، وفي إظهار امتعاضهم من عمليات الاعتقال التي طالت الآلاف، ثم الحملة العسكرية التي شنّت في المناطق الكردية داخل تركيا وخارجها.
استقرّ المشهد خلال السنوات الثلاث الماضية على شَرْخِ كبيرٍ في جدار الثقة ازداد يوماً بعد آخر عقب التبايُن في وجهاتِ النظرِ بين الطرفين. فانهيار التحالف الأميركي التركي في الشمال السوري، وتوجّه واشنطن إلى مُساندةِ الكرد وتسليحهم رغم التحذيرات التركية المُتكرّرة، دفع الأتراك إلى العمل منفردين بين التعاون مع الروس من ناحية وبين تقديم الدعم لفصائل مُسلّحة سوريّة مُناهِضة للكرد في الشمال السوري.
وقد استمر الأمر على هذه الحال حتى شهرين خَليا، حيث طرأ تحسّن بطيء توّج في نهايته اللقاء بين الرئيسين ترامب وإردوغان في باريس قبل أيام. وهو اللقاء الأول بين الطرفين بعد فَرْض العقوبات الأميركية على التجارة التركية.
وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء نجد عدداً من المؤشّرات في إعادة تطبيع العلاقات بين الطرفين:
- إدارة تركيا بهدوء وتروٍّ لملف اغتيال خاشقجي، الأمر الذي خفَّف من وطأة الضغط على الرئيس ترامب قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس ومجلس الشيوخ.
- إفراج الأتراك عن القسّ الأميركي آندرو برانسون المُتّهم بالتجسّس قبيل تلك الانتخابات، ومحاولة ترامب استثمار المشهد باستقباله القسّ في البيت الأبيض خدَما شعبية ترامب وسط القوى اليمنية في تلك الانتخابات.
في مقابل الخطوات التركية تقدَّمت واشنطن بخطواتٍ مماثلةٍ منها:
- إعفاءات أميركية لتركيا على نحو 25% من العقوبات النفطية المفروضة على إيران، بما يُعادِل نحو 3 ملايين طن من النفط سنوياً.
- رَفْع واشنطن للعقوبات المفروضة على وزيري العدل عبد الحميد غل والداخلية سليمان صويلو التركيين منذ آب/أغسطس الماضي على خلفيّة القسّ المُعتَقل.
- القبول الأميركي بالتفاوض مع الأتراك حول بنك خلق التركي الذي يواجه احتمال فَرْض غراماتٍ أميركيةٍ بعد إدانة أحد مديريه التنفيذيين بالمشاركةِ في برنامجٍ لمساعدة إيران على تفادي العقوبات الأميركية.
- بدء قوات تركية وأميركية مناورات مشتركة في مدينة منبج السورية.
- رَصْد واشنطن مُكافأة بملايين الدولارات لمَن يُرشِد عن ثلاثةٍ من كبار قادة حزب العمّال الكردستاني.
رغم هذا التحسُن لا يزال التبايُن قائماً حول جملة أمورٍ تتمثّل بشأن الوضع في سوريا وشراء أنقرة نظاماً روسياً للدفاع الصاروخي. ومن أبرز الخلافات التي قد تفجِّر العلاقات من جديد هو الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، حيث قامت الولايات المتحدة بتسيير دورياتٍ مشتركةٍ مع وحدات حماية الشعب الكردية، عقب ساعات من تنفيذ القوات الجوية التركية هجمات على مواقع كردية بُعيْد إعلان الرئيس إردوغان نيّته شنّ عملية واسعة شرق الفرات.
وعلى ما يبدو لم تفلح سياسة التطمينات الأميركية، ولم تقنع الأتراك تصريحات جيمس جيفري المُمثّل الأميركي الخاص إلى سوريا أن "الولايات المتحدة تحدّ (بحرصٍ شديدٍ) من الأسلحة التي تقدّمها لقوات سوريا الديمقراطية، التي تُهيمن عليها وحدات حماية الشعب وتُقاتل تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا". فتركيا لا ترى فرقاً بين وحدات حماية الشعب وحزب العمّال الكردستاني. وقد قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار "لا يمكننا قبول وضع مُكافأة بشأن حزب العمّال الكردستاني من جهةٍ وإرسال شاحنات من الأدوات والأسلحة والذخيرة لوحدات حماية الشعب الكردية من جهةٍ أخرى".
وأضح أن الأميركيين لا يريدون أن تكون تركيا مُطلقة اليد في خياراتها السياسية إقليمياً، وغير مُصطّفة في آنٍ ضمن محور روسي أو محور مُعادٍ للمصالح الغربية. والأتراك يجدون أن مكانتهم الحالية تمكّنهم من التحوّل من تابعٍ تاريخي إلى مُنافِسٍ أو شريك عدل في المغرم والمغنم. وما دون ذلك لا يعدو تفصيلاً حول أصل الخلاف.