أردوغان في مواجهة بن سلمان: الفُرصة والأثمان
قيل الكثير حتى الساعة في الصحافتين العربية والعالمية عن التسلسل الزمني للتصريحات و"التسريبات" التركية إزاء قضية خاشقجي ودلالات هذا التسلسل، هناك إجماع على أن الرئاسة التركية قرّرت منذ اللحظة الأولى تجيير القضية لمصلحتها، وتصفية حساب غير مُعلَن مع وليّ العهد السعودي.
في الساعات الأولى لانتشار الأخبار حول فُقدان الكاتب جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، أفاد تقدير موقف صادر عن مؤسّسة بحثيّة مُقرَّبة من الحزب الحاكم في أنقرة أن الرئيس التركي يتّجه نحو الضغط على الرياض بهدف الحصول على "أثمانٍ" سياسية من قضية خاشقجي.
من بين "الأثمان" المذكورة استرداد أتراك مُتَّهمين بالانضمام إلى جماعة "فتح الله غولن".
لم يكن اختفاء خاشقجي قد حاز بعد على كل الاهتمام الدولي. من المؤكَّد أن "أردوغان"، الذي يُجيد التفاوض لتحقيق مصالح بلاده، طوَّر سياسته إزاء التعامُل مع الموضوع تبعاً للأحداث المُتتالية والفوضى السعودية في التعامُل مع القضية – الجريمة.
قيل الكثير حتى الساعة في الصحافتين العربية والعالمية عن التسلسل الزمني للتصريحات و"التسريبات" التركية إزاء قضية خاشقجي ودلالات هذا التسلسل.
هناك إجماع على أن الرئاسة التركية قرّرت منذ اللحظة الأولى تجيير القضية لمصلحتها، وتصفية حساب غير مُعلَن مع وليّ العهد السعودي.
بالرغم من اختلاف المصالح الحاد والتنافُس التاريخي على زعامة العالم "السنّي" بين الدولتين، لم تصل العلاقات بين أنقرة والرياض إلى حدِ العداء في العَلَن، بل كانت تخضع دوماً لأسقفٍ ترسمها رغبة مشتركة في تقديم المصالح الاقتصادية على ما عداها.
إلا أنّ أردوغان ما بعد محاولة الانقلاب عليه غير أردوغان ما قبل الانقلاب؛ فرجل تركيا القوي بات يميل أكثر إلى استخدام الإعلام كسلاحٍ سياسي منذ أن دعا للمرة الأولى أنصاره، عبر تطبيق "فايس تايم"، إلى النزول إلى الشارع ومواجهة الانقلابيين، بناءً لنصيحة تردَّد أنها وصلته على عَجَل من طهران.
ثابت واحد بقيّ على تأثيره في الحسابات التركية ألا وهو العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. فعلى الرغم من تحسين العلاقات مع روسيا والحفاظ على تفاهُمات اقتصادية مع إيران، لم ترقَ أنقرة إلى مرحلة "إعادة التموضع" في علاقاتها مع واشنطن، حتى بعد التلويح الأميركي بورقة العقوبات.
والحال أنّ أردوغان يحقّق عدّة مكاسب في قضية "خاشقجي" بما يتناسب واعتباراته جميعها:
- أولاً، يُقدِّم أردوغان نفسه باعتباره مُدافعاً عن حقوق الإنسان. التركيز الدولي على قضية خاشقجي تضع تركيا تحت المِجهر. من المفيد للموقف التركي من محادثات الانضمام العالِقة إلى الاتحاد الأوروبي أن يَحرص أردوغان على كشف مُلابسات الجريمة.
- ثانياً، يُعزِّز الإصرار التركي موقف أنقرة كزعيمةٍ للعالم الإسلامي السنّي بعد أن أثارت السياسة السعودية جُملة أسئلة حول أهليّتها لهذا المنصب المعنوي، بدءاً من حادثة انهيار الرافِعة في موسم الحجّ قبل سنوات قليلة وحتى "إصلاحات" بن سلمان السريعة التي تُثير أسئلة يحتاج العالم الإسلامي وقتاً لهضمها، بعد أن صار الحرام حلالاً في ليلةٍ واحدة.
- ثالثاً، وضعت قضية خاشقجي العلاقات الأميركية السعودية أمام موقف مُحرِج، لا لشناعة الفعل، بل لأن ترامب يبني قراراته على شعبية الداخل الأميركي البسيط. هذا الداخل لا يمكنه القبول بأية حال بتبريرات لقتل خاشقجي، وبالتالي على ترامب الاستماع إلى أصوات الكونغرس الداعية إلى "مُعاقبة" السعودية. في هكذا حال، ومع إعلان ترامب علناً أن مصالح الولايات المتحدة المالية مع السعودية تتفوَّق على أيّ اعتبارٍ آخر، فمن المُتوقَّع أن تتفتّق أريحة ترامب عن تسوية تُطيح برؤوسٍ بعينها مع الحفاظ على العلاقات. عند هذه النقطة تحديداً، تتقاطع مصالح أردوغان وترامب في "تأديب" بن سلمان وتطويعه أكثر، كلٌ من موقعه. هذا يُفسِّر أيضاً تحييد الملك السعودي في خطابات الأميركيين والأتراك على حدٍ سواء.
الاعتبارات أعلاه جميعها تُفسِّر سبب إغفال أردوغان، في خطابه الأخير المُنتَظر، أي حديث عن التسجيلات التي تردَّدت في الأنباء حول الشِجار داخل القنصلية، عِلماً أن التسريبات التركية الكثيرة والمُعطيات التي بُني عليها الموقف الرسمي تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك وجود أدلّة ووثائق لدى أنقرة تكشف خيوط الجريمة بالكامل، ولكن المانِع من كشفها حتى اللحظة هو الاعتبار السياسي والتوقيت المُناسِب قبل طَرْح القضية برمَّتها على طاولة المفاوضات مع واشنطن، وهو ما بدأت إرهاصاته بالتبلور مع الزيارات المكوكية الأميركية إلى المنطقة.
فهل يُبقي أردوغان سيفه المُسلط على السعودية عند حدود الحصول على أثمانٍ تكتيكيةٍ مرحليةٍ أمْ يُغرزه في بطن ملف خلاف الملك السعودي؟
مهما كان مآل الأمور، فالأكيد أن تركيا هي الرابِح الجيو- استراتيجي الأول من جريمة قتل خاشقجي، وأن أردوغان بات يؤرِق بن سلمان.