كيف يعاني ترامب من شبح "واترغايت"؟

صراعٌ ضارٍ داخل أجنحة المؤسسة الحاكمة بشأن مسار وجهة التحقيقات التي يجريه المحقق الخاص روبرت موللر، بدافع إيجاد الدلائل على تورط شخص الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولي حملته الانتخابية ونجليه في التعامل مع روسيا. فالقاء القبض على رئيس حملته الانتخابية بول مانافورت، وتقديمه للمحاكمة، واكبه استهداف موكله القانوني الشخصي، مايكل كوهين، ومداهمة الأجهزة الأمنية لمكتبه الخاص ومصادرتها لأجهزة وبيانات وملفات وتسجيلات صوتية بعضها يخص الرئيس ترامب نفسه.

التحقيقات حول اجتماع برج ترامب هي أفضل دليل على وجود تغطية (تضليل) يمكن إثباتها

في ظل هذا المناخ الملبد بالفضائح، الأخلاقية والمالية والسياسية، يجري تسريب ما هو ضروري لإقناع الرأي العام بمخالفة وانتهاك الرئيس لمنصبه وصلاحياته، ولتبرير إدامة التحقيق للكشف عن مزيد من السلوك الذي لا تليق بمنصب رئيس البلاد، بحسب تعبير معارضيه.

ردود فعل ترامب اعتاد نشرها على شبكة "تويتر" لاطلاع العالم كافة عما يدور بخلده، ومنها تصعيده اللفظي لمسائل سياسية حساسة مع كل من كوريا الشمالية وإيران، اتسم بعضها بالغضب واستخدام مفردات مهينة بعيدة عن الكياسة الديبلوماسية.

إساءة الرئيس لاستخدام سلطاته كان المدخل "القانوني" الذي أطاح بالرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، حين طالب وزير العدل آنذاك إليوت ريتشاردسون باو-قالة المحقق الخاص الأسبق، آرتشيبولد كوكس، (مساء الجمعة 20 تشرين الأول/ أكتوبر 1973) فرفض حينها وزير العدل أوامر الرئيس وقدم استقالته على الفور. وكذلك فعل نائبه ويليام ركيلزهاوس.

وأصدرت محكمة فيدرالية قرارها بعد بضعة أسابيع، في 14ت2/ نوفمبر 1973، بعدم صلاحية طلب الإقالة. وقامت يومية واشنطن بوست بنشر تحقيق لها في اليوم التالي أوضحت أن الرئيس ارتكب كذبة مقصودة: إذ طالب بالبداية بإقالة المحقق الخاص، وحين لم تفلح جهوده سخر من هو في المرتبة الثالثة بوزارة العدل لتنفيذ مراده بالزعم أن الأول قدم استقالته. وتدحرجت الأزمة سريعاً بعد تلك الحادثة إلى أن قدم نيكسون نفسه استقالته.

المدير السابق لوكالة الأمن الوطني، جيمس كلابر، مضى في شنّ هجوم على الرئيس ترامب بوصفه ما يجري من تطورات متسارعة واتهامه بمحاولة عرقلة العدالة بأن "فضيحة واترغايت في السبعينيات أصغر من حجم التحقيقات في قضية روسيا وترامب، وتتضاءل مقارنة بما نواجهه الآن".

وشاطره الرأي السيناتور جون ماكين بتصريح لأسبوعية ذي ايكونوميست قائلاً إن التهم التي يواجهها ترامب "تصل إلى حجم ومستوى فضيحة واترغايت". وأضحت المقاربة مع "واترغايت" على لسان العامة والسياسيين على السواء خاصة بعد مطالبة الرئيس ترامب وزير العدل، جيف سشينز، باقفال ملف التحقيق الجاري وإنهاء مهمة المحقق الخاص موللر (1 آب الجاري) رغم معرفته بأن وزير العدل كان قد أعفى نفسه من المشاركة في هذا الملف.

وحافظ الرئيس ترامب على معدل تغريداته اليومية ليحدد على الملأ ما هو المطلوب من وزير العدل ونائبه القيام به بخلاف الأنباء المتوالية من التسريبات المقصودة لما جرى من نقاش في ذلك اليوم المشؤوم في "برج ترامب" مع وفد روسي يقال إنه "قدم اقتراحاً بتسليمه ملفاً فضائحياً لمنافسته المرشحة هيلاري كلينتون". تحديد الثمن المطلوب من ترامب يجري من خلال تلك التسريبات بأنه قدم وعداً بتجميد العقوبات المفروضة على روسيا بعد فوزه بالانتخابات، والغائها لاحقاً.

في السابع والعشرين من الشهر الماضي بثّت شبكة سي أن أن ملخص تقرير أعدّه الصحافي كارل بيرنستين مع آخرين يقول إن "محامي ترامب مايكل كوهين مستعد لإبلاغ المحقق الخاص موللر بأن ترامب كان على علم بالاجتماع الشهير في برج ترامب، حزيران/ يونيو 2016". ومضى التقرير بالقول إن تلك المعلومات تناقض ما أعلنه الرئيس ترامب والمقربون منه بأنه على غير علم بالاجتماع..".

شبكة سي أن أن، في قاموس الرئيس ترامب هي الأبرز إعلامياً في فبركة "الاخبار المزيفة،" بل هي "عدو الشعب الأميركي".

أما "الجديد" بتعريف بيرنستين  فهو أن التحقيقات حول اجتماع برج ترامب هي "أفضل دليل .. على وجود تغطية (تضليل) يمكن إثباتها".

زميله الأكثر شهرة، بوب وودوورد أعد كتاباً عما يدور داخل إدارة الرئيس ترامب، سيصدر مطلع شهر أيلول/ سبتمبر المقبل بعنوان "الخوف: ترامب في البيت الأبيض"، يكشف فيه تفاصيل غير مسبوقة عن الكيفية التي يتخذ الرئيس ترامب قراراته بشأن السياسات الداخلية والخارجية الرئيسة والسجالات الحامية في مكتب الرئيس، وفق عرض قدمته يومية واشنطن بوست، 31 تموز/ يوليو الماضي.

وأضافت الصحيفة أن الكتاب استغرق "19 شهراً" من التحقيقات والمقابلات "غير المنسوبة لأصحابها في الإدارة" باعتماد وودوورد على "السمات المميزة لنهجه في إعداد التقارير الإستقصائية".

وزير العدل جيف سشينز كان من أول الداعمين لحملة ترشيح ترامب، والأشد حماسة في الأشهر الأولى لتنفيذ ما اعتقده ضرورياً لحماية "أجندة الرئيس". وبرز دوره في لقاء عقده مع السفير الروسي بواشنطن، سيرغي كيسلياك، بعد فوز المرشح ترامب، ولم تفلح جهوده بالتغطية على ذلك، وقدم تنازلاً هاماً لزملائه في مجلس الشيوخ باتخاذه قرار بالتنحي عن المشاركة في كافة القضايا المتعلقة لالتحقيق بحملة ترامب الرئاسية.

استناداً إلى تلك المعطيات، وحرص وزير العدل على سلاسة عمل المؤسسة بمساعدة أقرانه في الكونغرس، فمن غير المرجح أن يقدم على قرار بإقالة موللر وإرضاء الرئيس ترامب، خاصة بعد تحقيق نشرته يومية نيويورك تايمز، في 26 تموز/ يوليو الماضي، كشف عن انكباب موللر وفريقه مراجعة كافة التغريدات الصادرة عن الرئيس ترامب حافزها عرقلته للعدالة، لاسيما تلك التغريدات التي تحط من شأن المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي، والتي تقارب تهمة التلاعب بشهادات الشهود.

اعتقال مدير الحملة الانتخابية السابق، بول مانافورت، وايداعه السجن، ثم مثوله أمام المحكمة لمواجهة سلسلة من التهم شكل ضربة قوية للرئيس ترامب انعكس على لهجة تغريداته وانفعالاته الحادة. لكن مبرر فريق موللر للحكم القاسي على مانافورت هو لمعاقبته برفضه التعاون مع الفريق للإدلاء بشهادته ضد الرئيس ترامب، وفق تفسير أخصاء بالقضاء الأميركي. ففي البعد النظري، يشكل ذلك انتهاكاً للدستور الأميركي ولمادة التعديل الرابعة عشر منه، التي تضمن للمتهمين حماية متساوية أمام القضاء. فالإدعاء العام الذي يلعب دوراً محورياً في القضاء الأميركي، يمارس رجالاته سوء تصرف شائع مما دفع نحو 43% من الأميركيين إلى  الاعتقاد أن مخالفات الإدعاء العام تبقى بعيدة عن التداول العام، ونسبة 74% تعتقد أن المخالفين لن يناولوا عقاباً لفعلتهم كما كشفت الاستطلاعات الأخيرة أيضاً عن عدم ثقة الجمهور بالقضاء بنسبة 75%.

البعد السياسي وتداعياته حاضر في محاكمة مانافورت ومايكل كوهين، إذ من شأن صدور قرار بالإدانة أن يعزز سير الآلة الانتخابية لصالح الحزب الديموقراطي في الانتخابات التشريعية المقبلة. لكن الرئيس ترامب لديه صلاحية إصدار عفو عنهما أو تخفيف عقوبة السجن لأقصر مدة ممكنة.

التعويل على تقرير موللر المقبل بإدانة المتهمين يواجه ثغرة مصداقيته والتي تصطدم بعدم توفر الدليل القاطع لتوجيه الاتهام للرئيس ترامب، عرقلة العدالة، لا سيما وأن أركان الحزب الجمهوري لن يقفوا مكتوفي الأيدي في تلك اللحظات.

قد يتوصل الحزبان إلى تفاهم مؤقت بتأجيل صدور التقرير وقرار المحكمة إلى ما بعد الانتخابات في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لدرء الاتهامات المتبادلة ولا سيما أن صدقية العملية الانتخابية عينها محط تساؤل وشبهة. بغياب ذلك "التفاهم"  قد تُنذر المنافسة بمعركة سياسية حامية الوطيس، يعتقدها الحزب الديموقراطي أن حظوظه للفوز بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ أضحت قاب قوسين أو أدنى. لكن فشل رهان الحزب الديموقراطي على الفوز بأغلبية مقاعد مجلس النواب ربما يحفّز الرئيس ترامب على اتخاذ خطوات لإنهاء التحقيق وإغلاق ملفه على الفور، وهو لا يزال يتمتع بتأييد شريحة واسعة وثابتة من الناخبين.