بوتين الجديد، هل يتخذ سوريا قاعدة انطلاق عالمية؟

الفوز الكاسح في الانتخابات الرئاسية، يعزّز طموحات الرئيس الروسي للمضي في مشروع التوازن مع الدول الغربية وبناء علاقات متساوية. لكن هذا المشروع قد يكون من غير أفق قابل للتحقيق إذا لم تستند روسيا إلى قاعدة انطلاق عالمية في سوريا، تعبيراً عن وصولها إلى المياه الدافئة بين المحيطات. فلماذا؟

بوتين الجديد يبدو أنه ليس استكمالاً لبوتين السابق طيلة فتراته الثلاث الماضية في الحكم

في تعليقه على حيازة الصلاحية المطلقة لست سنوات مقبلة بتأييد شعبي عارم، دعا فلاديمير بوتين الدول الغربية إلى التعاون "على قدم المساواة" في إشارته إلى المشروع الروسي الطموح الذي أوضحه في خطاب مسهب قبيل الانتخابات، كبرنامج انتخابي، من أجل إقرار موقع روسيا الاستراتيجي الذي يطمح إليه في التوازنات الدولية ولا سيما بين الشرق والغرب.

بوتين الجديد يبدو أنه ليس استكمالاً لبوتين السابق طيلة فتراته الثلاث الماضية في الحكم، على الرغم من أن بذور جديده الحالي نبتت سابقاً. ففي مفاجأته الأولى التي أحدثت صدمة في الدول الغربية حينذاك، أطلقها بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي العام 2007 حين دعا إلى عالم متعدد الأقطاب دليلاً على عودة روسيا التي تفرقت أيدي سبأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وبعد سبع سنوات رفض بوتين الأحادية القطبية في منتجع "فالداي" العام 2014، داعياً إلى منظومة عالمية من دون هيمنة غربية تكون روسيا من خلالها مؤثرة في موازين القوى.

لكن روسيا التي قادها بوتين من الانهيار منذ العام 2000 إلى الوجود، لم تحظَ بمقومات عالمية صلبة تجعلها قطباً حاسماً يفرض نفسه بقوة في التوازنات الدولية. فقد نشطت روسيا في الأروقة الدبلوماسية وإلى حدّ ما في مجلس الأمن والهيئات الدولية. لكنها لم تستطع أن تثبت وجودها واضطرت إلى خفض جناحيها أثناء التدخل الأميركي في يوغسلافيا السابقة وأوروبا الشرقية. والأدهى أنها راهنت على التعاون مع الحلف الأطلسي وعلى انضمام رابطة الدول المستقلة حول الفلك الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، ظناً منها أن روسيا والدول المحيطة يمكنها تبادل المنفعة السياسية والاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي.

قاعدة روسيا التي كانت تطل منها على التوازنات الدولية، كانت راكدة في المياه المتجمدة وهي المعضلة التاريخية أمام روسيا التي كانت تسعى منذ كاترين العظيمة (1762 ــ 1796) إلى تخطيها في الوصول إلى المياه الدافئة عبر البحر الأسود.

فانحسار روسيا في المياه المتجمدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي جعلها هدفاً للتصويب من قبل الولايات المتحدة في قاعدتي الدرع الصاروخي في بولندا وجورجيا، وفي التوسع إلى دول البلطيق (استوانيا ولاتفيا وليتوانيا) وإلى دول رابطة الدول المستقلة التي انقلبت مع الاتحاد الأوروبي على روسيا لتشديد الخناق والحصار (أوكرانيا،جورجيا،أذربيجان...) وحين حاول الاتحاد الأوروبي التسوية مع روسيا في أوكرانيا أبدت فيكتوريا نولاند سخطها بالقول فلتذهب أوروبا إلى الجحيم.

بوتين الجديد يتسلّح بتخطي روسيا الحصار في المياه المتجمدة وانتقالها إلى المياه الدافئة نحو البحر المتوسط على الشاطىء السوري، فضلاً عن ضم القرم. وربما هذا الانتقال الجيوسياسي الكبير هو ما  تحاول الدول الغربية أن تكسره في التصعيد ضد سوريا في مسألتي السلاح الكيماوي وفي مسألة الغوطة الشرقية. لكن روسيا رفعت السقف عالياً في المسألتين تحديداً لقطع الطريق على إمكانية استخدام الدول الغربية سلاح الجرائم ضد المدنيين. وجاء رد بوتين حاسماً ضد التهديد الأميركي لضرب سوريا والمراكز الرمزية الحيوية في سوريا كوزارة الدفاع ومثيلاتها.

بوتين الجديد الذي يعرض قوة روسيا العسكرية والصاروخية، يأمل استخدام العرض للتعاون على قدم المساواة. وربما لا تعبّر دعوة وزير الدفاع البريطاني "غيفين ويليامسون" إلى أن تتنحى روسيا جانبأ وتخرس، لا يجذب ألمانيا كما طالبت أنغيلا ميركل وقد لا يجذب بعض الدول الأوروبية التي يحلو لها ترويج العبارات التي تدغدغ المركزية الأوروبية من دون طائل. فالمؤرخ الأميركي "روبرت ماسي" يعرض كما تنقل مادلين أولبرايت إلى أن وصول روسيا للمياه الدافئة في المتوسط يقلب استراتيجية المحيطات والقارات رأساً على عقب.