ما هي خلفية كيسنجر لإزاحة تيلرسون من الخارجية الأميركية
لهجة التبجح الصادرة باستمرار من الرئيس ترامب، في القضايا العالمية المتعددة، لا سيما في ملف كوريا الشمالية، ينبغي إدراجها ورؤيتها في سياق مبدأ كيسنجر – السياسة الواقعية والمستندة إلى السعي لتفتيت جبهة الخصوم والمنافسين على المسرح الدولي (الصين وروسيا)؛ ورديفة للتوجهات المناوئة لأولوية المسار الديبلوماسي الذي أثمر التوصل لإبرام الاتفاق النووي.
غياب وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون، إقالة أو استقالة، كان متوقعاً منذ الصيف الماضي. وسُرِّبت سرديات حول حتمية إقالته قيل إن البيت الأبيض هو المسؤول عنها بغية إحراجه وإهانته. بيد أن توقيت "إقالته" جاءت بالتباين مع بعض "الإنجازات" الديبلوماسية، لا سيّما في الإعلان السريع للرئيس ترامب عن موافقته للقاء رئيس جمهورية كوريا الشمالية وجهاً لوجه، في نهاية شهر أيار/ مايو المقبل؛ وكذلك في أعقاب تجديد مصادقته "المشروطة" على الاتفاق النووي مع إيران.
اللافت انكباب الوزير تيلرسون في الآونة الأخيرة على تصدّر الجهود الأميركية لترويض مواقف الدول الأوروبية، الأطراف الموقعة على الاتفاق، بقبول مبدأ إعادة التفاوض مع طهران مما يسمح بإضافة عناصر خلافية أخرى على رأسها البرنامج الصاروخي لإيران، اتساقاً مع "مطالب" المتشددين والمتضررين من الاتفاق النووي في واشنطن وتل أبيب. في المحصّلة، باءت جهوده لإعادة التفاوض بالفشل.
في سياق تنافس أقطاب وتوازنات السلطة السياسية ومراكز القرار، واجه وزير الخارجية تيلرسون سلسلة انتقادات شديدة من "النخب السياسية التقليدية"، وبعض الديبلوماسيين السابقين والمؤيدين للرئيس ترامب، وكيلت شتى الإتهامات له. واظب تيلرسون على "التخفيف من وطأة الاسلوب الفج" للرئيس ترامب، لاسيما في تفضيله اصدار الأحكام والمواقف سريعاً عبر الشبكة الإلكترونية – تغريداته – والتي اشعلت توترات واضطرابات على الصعيد العالمي، مهددة بنشوب حرب نووية لا تبقي ولا تذر.
لا يغيب طيف وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر عن مفاصل صنع القرار السياسي في أميركا حتى يظهر مجسداً ومرغوباً للقاء به من أكبر السياسيين الأميركيين ليبرهن على صحة نظرياته وقد استفاد من أخطاء الماضي، كما يصفها أحياناً، لإعطاء الأولوية للجهود الديبلوماسية، ويبلور رؤية استراتيجية ومعالم سياسات تخدم الاستراتيجية العليا في المقام الأول، وإعادة التوازن لمكانة ونفوذ الولايات المتحدة على المسرح العالمي وإرساء قواعد أنجع "لإدارة الأزمات" العالمية أمام تحذير عدد من الاستراتيجيين الأميركيين من "زوال الديبلوماسية .. (الناجم عن) تسلم المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات" قيادة دفة السياسة الأميركية.
من المفارقات التاريخية في هذا الصدد ما توصل إليه أبرز منظري المحافظين الجدد، فرانسيس فوكوياما، الذي بشر مطلع الألفية بصراع الحضارات و"نهاية التاريخ" لصالح سيادة الصيغة الأميركية؛ وما لبث أن تراجع عن معتقداته مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2008 بمقال ذيله في أسبوعية نيوزويك مبشراً هذه المرة بـ "إنهيار أميركا كمؤسسة ..".
الرابط المشترك ليس بين كيسنجر والرئيس ترامب بالدرجة الأولى، بل بين كيسنجر ووزير الخارجية (السابق) ريكس تيلرسون عند الأخذ بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والخلفية المشتركة بينهما: قطاع النفط. تيلرسون الرئيس السابق لأخطبوط النفط العالمي إكسون-موبيل، وجذورها عند آل روكفلر؛ وكيسنجر الذي رشحه نيلسون روكفلر لمنصب مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأسبق نيكسون.
لإلقاء مزيد من الضوء على تلك العلاقة "الملتبسة،" يخبرنا المؤرخ الأميركي ويليام إنغدال، شباط/ فبراير 2017، أن اختيار تيلرسون لمنصب وزير الخارجية جاء بتوصية من الأقطاب البارزة وراء مجيء ترامب "وارين بفيت؛ ديفيد روكفلر (توفي 20 آذار/ مارس 2017)؛ وهنري كيسنجر" لرغبتهم إدارة دفة السياسة الخارجية للعهد الجديد عبر شخصية آتية من الصناعات النفطية الضخمة. ويمضي إنغدال موضحاً أن "المخطط" كان يرمي القيام "بإعادة تنظيم/ هيكلة عالمية كبرى في مجال السيطرة على النفط، عبر العودة لمقولة كيسنجر الشهيرة: إذا سيطرت على النفط فإنك تسيطر على أمم بأكملها أو على مجموعة من الأمم".
ظهر هنري كيسنجر إلى جانب الرئيس دونالد ترامب في المكتب الرئاسي (البيضاوي) أكثر من مرة، أبرزها لقاء ترامب مع وزير الخارجية الروسي "غير المسبوق في المكتب الرئاسي،" أيار/ مايو ،2017، وفق أحكام البروتوكول الأميركي؛ مما أثار فضولاً وجملة تساؤلات حول دوره وتأثيره على مسار السياسة الأميركية في عهد ترامب.
تصريح ترامب بحضور كيسنجر في تلك الأثناء كان لافتاً بالقول ".. أجرينا لقاءا جيداً مع لافروف"، قيل لاحقاً أن الأمر اقتصر على سوريا والعلاقة الثنائية بين واشنطن وموسكو.
في "غياب" كيسنجر عن البيت الأبيض تتولّى مساعدته السابقة في مجلس الأمن القومي، كاثلين ماكفارلاند، إدارة الملفات الحساسة في منصبها كنائبة لمستشار الأمن القومي لدى ترامب؛ وتجسيدها الوفي لمبدأ كيسنجر المتمثل بـ "اللعب بالنار" للحصول على ما تريد وإرساء الفوضى ما أمكن.
"إرث" كيسنجر في السياسة لا يزال يُستحضر لفرادته وتفرده في اتخاذ القرارات: تجاهله المتعمد لدور وزارة الخارجية حينما كان مستشاراً للرئيس لشؤون الأمن القومي؛ وتجاهل دور مؤسسة الأمن القومي عند تسلمه منصب وزير الخارجية. الأمر الذي أسفر عن تقديم وزير الخارجية الأسبق ويليام روجرز استقالته لاستثنائه من ترتيبات الإعداد لزيارة الرئيس نيكسون للصين.
من نافل القول أن كيسنجر كان من "القلائل" بين السياسيين الأميركيين ممن أيدوا انتخاب دونالد ترامب، معلّلاً قراره لشبكة "سي إن إن"، 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بالقول "..الرئيس المنتخب هو الأكثر انفراداً من بين الذين شهدتهم .. ليس لديه أفكار (مسبقة)، وأصبح رئيساً استناداً على استراتيجيته الخاصة".
في أحدث لقاء بين ترامب وكيسنجر، 8 شباط/ فبراير 2018، غرّد الأول مزهواً "سألتقي بهنري كيسنجر في الساعة 1:45 بعد الظهر (بتوقيت واشنطن). سنبحث مسائل كوريا الشمالية والصين والشرق الأوسط". ربّما تم تذكير ترامب بأسس عقيدة كيسنجر المستندة إلى" .. تحقيق الأمن بالمطلق – (عبر) تحييد الخصم – يعتبر ضماناً كافياً" للاستراتيجية الأميركي.
من بين الأمور اللافتة مواظبة مدير وكالة الاستخبارات المركزية، مايك بومبيو، الاختلاء اليومي بالرئيس ترامب لما لا يقل عن 30 دقيقة، مستعرضاً أمامه تقرير الملخّص الاستخباراتي، بحدود الساعة الحادية عشرة صباح كل يوم؛ استطاع عبر ذلك نسج علاقة وطيدة مع الرئيس "يتبادلان" فيها وجهات النظر في مسائل الأمن القومي الحساسة بحرية. ونقل بعض أعوان الرئيس عن اللقاء اليومي بالقول أن بومبيو يوظف تقنية الرسومات الدقيقة لإبهار مستمعه ولضمان عدم تشتّت ذهنه، متحكماً بالمضمون وحمل الرئيس على تبني وجهة نظره بمهارة المؤسسة الاستخباراتية.
في المحصلة، توطدت علاقة الرجلين وأضحى بومبيو لا يفارق الرئيس ترامب في اتخاذ المواقف المتعددة، مما ولّد شعوراً بالقلق من الطواقم المختصة، لا سيّما في وزارة الخارجية الأميركية؛ أدت لتباعد علاقة الرئيس بوزير خارجيته والتحايل عليه بتفضيل صهره، جاريد كوشنر، في تسلّم وإدارة عدد من الملفات الحساسة: الشرق الأوسط، الصين، المكسيك.
خلفية مايك بومبيو، باختصار شديد، لا تدعو على الإرتياح. هو الآتي من تيار "حزب الشاي"، المتطرف في الحزب الجمهوري، عمل نائباً في مجلس النواب الأميركي عن ولايته كانساس، وله سجل عسكري معتبر وخدماته في الحرب على العراق. وأبرز ما يظهره سجلّه خلال عمله في الكونغرس معارضته الشديدة للاتفاق النووي وتفضيله التدخل العسكري الأميركي على نهج الديبلوماسية، معتبراً أن "الغارات الجوية لها مفعول أفضل من الديبلوماسية".
ما يجهله الكثيرون هو علاقته الحميمية مع "الأخوين كوك"، وأخطبوط نفوذهما في احتضان وترشيح السياسيين المنسجمين مع أطروحاتهما فائقة العنصرية والتشدد، عبر امبراطورية تمويل متشعبة لا تكلّ. يشار إلى أن امبراطورية الأخوين كوك دعمت مبكراً حملة الرئيس ترامب الانتخابية وضخّت مبالغ عالية في حملات مرشحين متشددين على طول الولايات المتحدة.
تقودنا هذه السردية السريعة إلى القول إن ما ينتظر وزارة الخارجية الأميركية برئاسة مايك بومبيو ليس عسيراً على الفهم أو التنبؤ، أبرزها تصعيد في حدة التوترات في "الشرق الأوسط" من دون استبعاد نشوب حرب مع إيران، حسبما يرجح كبار الاستراتيجيين الأميركيين؛ يساندهم في ذلك تصريحات الرئيس ترامب المتكررة بأنه لا ينوي تجديد التزام بلاده بالاتفاق النووي حين حلول موعده في شهر أيار/ مايو المقبل، وما ينطوي عليها من مطالبة الدول الأوروبية الاصطفاف التام خلفه بغية "انتهاك نصوص الاتفاق لإنقاذه".
في هذا السياق، وعند النظر إلى نفوذ كيسنجر الطاغي على مفاصل صناع القرار، يرجح الخبراء إقدام واشنطن على إلغاء الاتفاق النووي من جانب واحد، إن لم تصطف الدول الأوروبية خلفها. وما يثير الحيرة في نفوس أولئك استعداد الرئيس ترامب للتفاوض المباشر مع جمهورية كوريا الديموقراطية، لكنه يحجم عن فعل مثيل ذلك مع إيران؛ ربما، كما يقول كيسنجر وترامب، لأن كوريا الشمالية لا تمتلك مؤهلات الدولة "الثورية"، وانتفاء رغبتها بنشر نفوذها في الدول المجاورة، بعكس ما تعتقده واشنطن من دور لإيران. بل تضع بيونغ يانغ نصب أعينها الفوز بانتزاع الشرعية والقبول من "النظام العالمي".
بالعودة إلى أطروحات كيسنجر السابقة، فإن السعي "لتحقيق الاستقرار هو نتيجة مباشرة ليس لإرادة بلوغ السلام بحد ذاتها، بل لكسب الشرعية" للنظام السياسي.
لهجة التبجح الصادرة باستمرار من الرئيس ترامب، في القضايا العالمية المتعددة، لا سيما في ملف كوريا الشمالية، ينبغي إدراجها ورؤيتها في سياق مبدأ كيسنجر – السياسة الواقعية والمستندة إلى السعي لتفتيت جبهة الخصوم والمنافسين على المسرح الدولي (الصين وروسيا)؛ ورديفة للتوجهات المناوئة لأولوية المسار الديبلوماسي الذي أثمر التوصل لإبرام الاتفاق النووي.