بعد هزيمة داعش بالرقة المدمرة أميركا وإلى حين باقية بمهام إضافية
واشنطن في عصر ترامب مسكونة بالتصدي لإيران وفرض إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، على الرغم من عدم تأييد حلفاء واشنطن من الموقعين على الاتفاق. بيد أن التصعيد باتجاه إيران له أبعاد داخلية بالدرجة الأولى لا سيما وأن الخطاب الإنتخابي للمرشح ترامب استند الى حشد التأييد ضد الاتفاق النووي ووعده "بتمزيقه".
تجدد الجدل الداخلي حول مصير القوات الأميركية في سوريا بعد ما يربو على عامين ونصف من تدخل واشنطن المباشر وتحقيق هدفها المعلن بإزاحة " داعش عن مدينة الرقة"، واكبها إعلان البنتاغون أن المدينة أضحت محررة من التنظيم الإرهابي – بصرف النظر عن تدميرها بالكامل.
قبل الإجابة الوافية على السؤال المحوري ينبغي الإضاءة على أبعاد "الانتشار العسكري الأميركي في سوريا" وتدرج تصعيده في أعقاب تكليف الرئيس ترامب للبنتاغون بلورة استراتيجية جديدة "تستند على نشر قوات أميركية برّية إضافية ومحدودة للمشاركة الفعلية في المعركة"، والمرور على "بعض" التسليح لدى القوات الخاصة الأميركية. أفادت يومية واشنطن بوست، 9 آذار /مارس الماضي، بأن واشنطن نشرت "وحدة مدفعية من سلاح المارينز، الوحدة 11، مزودة ببطاريات مدفعية هاوتزر لإطلاق قذائف عيار 155 ملم، ووحدة للتدخل السريع ومجموعة مظليين،" تجاوز تعدادها الإجمالي 1000 عسكري، مع العلم أن الحجم الرسمي المصرح به لا يزيد عن 500 عنصر.
هذا بالإضافة إلى إنشاء قاعدة جوية أميركية في منطقة الرميلان بمحافظة الحسكة، أقصى شمال شرق البلاد، وتسليح عناصرها بأسلحة نوعية "لا يمكن لواشنطن تقديمها للقوات الحليفة،" وخاصة مضادات الطائرات وأجهزة التشويش.
تتالت التقارير الميدانية والصحافية منذ ذاك التاريخ لترصد حجم الدمار الذي لحق بمدينة الرقة، لا سيما بعد تغيير الإدارة الأميركية "قواعد الإشتباك" بمنح قياداتها الميدانية "مرونة واستقلالية أكبر" في عملياتها مما أدى "الى إرتفاع كبير في أعداد الضحايا من المدنيين نتيجة قصف قوات التحالف".
استعادة الرقة "من غير المرجح أن يشكل نهاية للتدخل الأميركي في سوريا"، كما جاء على لسان عدد لا بأس به من العسكريين والمسؤولين السابقين، أحدثها كان في طيات تقرير لنشرة فورين بوليسي، في نسختها الالكترونية، 18 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، نظراً لخشية واشنطن من تمدد قوات الجيش العربي السوري وحلفائه قبل أن "تصبح المنطقة الجغرافية بين مدينة الرقة والحدود العراقية منطقة محرمة".
في الوقت عينه أعلنت "قوات سوريا الديموقراطية" عن عزمها ضم مدينة الرقة الى منطقة حكمها الذاتي، المعلن من جانب واحد، تجسيداً للوعود الآميركية بأن مستقبل سوريا ينبغي أن يكون بصيغة حلٍ "فيدرالي لا يستند الى نظام حكم مركزي". بعبارة أخرى، واشنطن لا زالت تعلق آمالاً على تقسيم سوريا الى كيانات متعددة.
مستشار الأمن القومي الأسبق لنائب الرئيس ديك تشيني، جون هانا، كان بالغ الوضوح في رؤية ونوايا المؤسسة الحاكمة لما بعد الرقة قائلاً أن "تواجد قوات محلية مدعومة أميركيا تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا يشكل ثقلاً ديبلوماسياً محتملاً لواشنطن في تشكيل مستقبل سوريا ما بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم داعش"، في 18تشرين الأول/ أكتوبر لقناة فرانس24.
نظرة ميدانية سريعة على طبيعة الجغرافيا تؤكد صحة النتائج التي انتهى إليها (هانا) وآخرين أيضا. إذ شجعت واشنطن "قوات سوريا الديموقراطية - قسد" في الآونة الأخيرة تصدر القتال "شرقاً" في مناطق بعيدة عن تواجدها وهي "غير قادرة على تنفيذ المهام المطلوبة منها بمفردها،" خاصة بعد رصد الأقمار الإصطناعية الروسية "تسليم داعش مواقعه في مدينة الرقة لـ (قسد) دون قتال"، وتيقن التقنية الروسية من تدمير المدينة بالكامل من قبل الطيران الأميركي.
المتحدث باسم قوات التحالف لمحاربة داعش، رايان ديلون، أكد في مؤتمر صحفي عقده من بغداد، 17 أكتوبر، أن "الإئتلاف الدولي يجري محادثات مع قوات سوريا الديموقراطية لمواصلة الحملة (ضد داعش) على طول نهر الفرات .."، أي مباشرة الى دير الزور وما سينطوي عليها من "احتكاك" وربما اشتباك مباشر مع قوات الجيش العربي السوري وحلفائه.
اتساع رقعة القتال الى وادي نهر الفرات أضحت حقيقة ومطلباً أميركيا، ليس لقطع طريق التواصل الجغرافي بين دمشق وطهران وتأكيد وزير الدفاع جيمس ماتيس أن القيادة الأميركية "تواكب تحركات ايران .. " فحسب بل لاحتواء باطن الأرض على مخزون "أهم حقول النفط" في سوريا.
بعد توجيه ضربات قاسية مميتة لتنظيم داعش برزت تكهنات حول مصير التحالف الدولي، المكون من 73 دولة وهيئة، والذي يعتقد أنه سيتعرض لبعض التصدع جراء الانسحابات المتتالية، وربما انفراط عقده وما سيخلفه هو صيغة تحالفات جديدة تعكس حقيقة موازين القوى على الأرض.
واشنطن وحلفاؤها في لندن وباريس تحديداً تعرب عن خشية تعرض بلدانها لحملة "متجددة" من الاعمال الارهابية، لا سيما وأن عدد لا بأس به من "المتطوعين في صفوف داعش" وجد طريق عودته لتلك البلاد وعلى أهبة الاستعداد لشن هجمات نوعية بعد الخبرة الميدانية المكتسبة.
على الطرف المقابل، ناحية سوريا وحلفائها، تتجدد أيضا المطالبة بسحب القوات الأميركية من سوريا دون قيد أو شرط، لعدم تنسيق تواجدها مع الحكومة السورية بشكل قانوني أو أي غطاء قانوني دولي لها، ولسوريا بالطبع كل الحق بتثبيت سيادتها على أراضيها.
تجدر الاشارة أيضاً الى أن استراتيجية ترامب "الجديدة" تستند الى تسخير القوات الخاصة للقيام بالأعمال القتالية، مع إدراك البيت الأبيض والبنتاغون الحدود القصوى لعدد القوات التي يمكن الاعتماد عليها، مما يرجح كفة التراجع الاضطراري عن إبقاء قوات أميركية لفترة طويلة والتي ستواجه مقاومة معتبرة. كما أن الطرفين يدركان طول المدة الزمنية التي يستغرقها إعداد عنصر القوات الخاصة، التي تقرب من السنتين، وصعوبة استبدال النقص بسرعة كما يرغب صاحب القرار السياسي.
واشنطن في عصر ترامب مسكونة بالتصدي لإيران وفرض إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، على الرغم من عدم تأييد حلفاء واشنطن من الموقعين على الاتفاق. بيد أن التصعيد باتجاه إيران له أبعاد داخلية بالدرجة الأولى لا سيما وأن الخطاب الإنتخابي للمرشح ترامب استند الى حشد التأييد ضد الاتفاق النووي ووعده "بتمزيقه".
الترتيبات الميدانية الأميركية مع الجانب الروسي في سوريا فيما اتفق على تسميته "بمناطق خفض التصعيد" سيتم صرفها سياسياً حين انعقاد مؤتمر جنيف الدولي، أو ربما خلال جولة أخرى في آستانا. أي أن لها سقف زمني محدد قد لا يستمر أكثر من بضعة أشهر.
أميركا تسخر "ورقة إعادة إعمار سوريا" لمصلحة استدامة بقائها هناك، لكن هزيمة المسلحين والمتطرفين، وان لم تكن نهائية حتى اللحظة، حرمتها من المراهنة على جسم عسكري متماسك باستثناء القيام بأعمال تخريبية؛ وتلوح بربط موافقتها لإعادة الإعمار على "تعاون" الحكومة السورية وابتزازها.
في هذا السياق يرى البعض حقيقة مغزى قيام المبعوث الرئاسي الأميركي لمحاربة داعش، بريت ماكغورك، بزيارة بلدة عين عيسى بالقرب من مدينة الرقة، 16 اكتوبر، بصحبة السفير السعودي السابق لدى بغداد ثامر السبهان، والذي أعادته الرياض بعد سلسلة شكاوى تلقتها نظراً لتدخلاته في الشأن الداخلي العراقي. وعقد الثنائي المذكور سلسلة لقاءات مع أعضاء المجلس المحلي لمدينة الرقة، أتبعها بلقاء مع "لجنة إعادة الإعمار."
مع تجريد واشنطن من فعالية "ورقتها السياسية بتشغيل المتطرفين،" تتراجع أهمية مراهنتها على التأثير بمستقبل سوريا، خاصة عند الأخذ بعين الإعتبار أن الطرف المنتصر هو الذي يفرض الوقائع السياسية.