شبه انقلاب فاشل هدية لأردوغان

محاولة الانقلاب العسكري كانت رائحتها في الأجواء التركية منذ محاكمة شبكة "أرغينيون" العام 2013 واتهام رئيس الاركان أيلكر باشبوغ بمحاولة الاطاحة بالحكم.

اختصار الحكم بالحزب الحاكم ورئاسته قد يأخد تركيا إلى ارتدادات أكبر من محاولة الانقلاب (أ ف ب)
لعل الرئيس رجب طيب أردوغان هو أكثر الذين ارتقبوا انقلاباً في حديثه المتكرر عن نفوذ فتح الله غولن في "الكيان الموازي" الذي بقي نداً لحزب العدالة والتنمية في الصراع على السلطة في داخل المؤسسة العسكرية  وإدارات الدولة. 

لكن أردوغان أخذ هذا التهديد سبيلاً لتدعيم سيطرته في تشكيل قيادات تدين له بالولاء على رأس مفاصل المؤسسات العسكرية والأمنية. فهذه القيادات في رئاسة الاركان والاسطولين البحري والجوي وقيادة الألوية ووزارة الدفاع وقفت صفّاً واحداً خلف الرئيس لمواجهة محاولة الانقلاب. 

فضلاً عن ذلك اعتمد أردوغان تفريغ الجيش من صلاحية الدور السياسي الأهم في تركيا وهو حماية الدستور والعلمانية، كما أقرّها الجنرال كنعان أفرين إثر انقلاب العام 1980.

 وفي هذا السياق أزال أردوغان إزدواجية السلطة فيما سمّاه اصلاحات ديمقراطية لإلغاء سيطرة الجيش على مجلس الأمن القومي، "تماشياً مع الاصلاحات التي يشترطها الاتحاد الآوروبي"، بحسب تعديلات الحكومة. 

لكن الرئيس أردوغان أنشأ ما يمكن تسميته كياناً موازياً للجيش مرتبطاً بالرئاسة تكوّن أثناء إقصاء الجنرالات ومحاكمة بعضهم في إنشاء مؤسسات الشرطة والاستخبارات وأجهزة مكافحة الارهاب على أساس مهام عسكرية، وهو ما قامت به هذه المؤسسات منذ اللحظة الأولى لمحاولة الانقلاب الفاشلة في الدفاع عن الحكم.

الرئيس التركي حضّر الاتراك للتحرّك لحظة الانقلاب، في تلميحه مراراً إلى ما يشي بمؤامرة أميركية ضد تركيا عبر بعض ضباط الجيش ورؤساء الادارات العليا الموالية لفتح الله غولن. 

وتعمّد في كل مناسبة سياسية أن يغمز من قناة واشنطن تجاه تركيا ولم يتوانِ عن اتهام الادارة الاميركية بدعم الارهاب (الكردي) رداً على إشارات واشنطن المتكررة بشأن الحدود التركية المفتوحة أمام "داعش" والنصرة. 

فالعلاقة الفاترة بين الادارة الاميركية وأردوغان، ربما تعود في أبعادها إلى ما تصفه واشنطن بإضعاف الجيش الذي يدخل في استراتيجية حلف الناتو كواحد من أهم جيوش الحلف في الطوق العسكري. وقد تكون معضلة إضعاف جيش الناتو التركي سبباً لعودة واشنطن عما أسهبت في نشره بشأن تمجيد النموذج التركي و"الاسلام المعتدل" حين اعتمدته الادارة الاميركية واحة ديمقراطية وازدهار اقتصادي.

في هذا الصدد توالت مقالات متعددة في الصحافة الأميركية وفي مركز دراسات الشرق الأدنى، تحضّ الجيش التركي على الانقلاب، استباقاً لاصرار أردوغان على تصفية مراكز القوى في الدستور المرتقب والنظام الرئاسي. 


ففي 30 آذار/ مارس الماضي كتب مايكل روبن المسؤول السابق في وزارة الدفاع، متسائلاً في صحيفة "نيوزويك" الأميركية "هل يقع انقلاب عسكري في تركيا؟". 

وهو يعرض تقريباً معظم الذرائع التي يمكن أن يستخدمها الجيش في انقلابه، بل يلمح إلى أن الادارة الاميركية تتقبل الانقلاب إذا سارع الجيش لإرضائها باطلاق سراح المعتقلين من الصحفيين وسجناء الرأي. ودليلاً على رائحة انقلاب تلوح في الأجواء ردّت قيادة الاركان التركية على موقعها الالكتروني يوم 31 آذر/ مارس، نافية أي نيّة لها بالخروج على شرعية الحكم.

 ربما ساهمت هذه الأجواء بشأن الانقلاب المتوقع في التحضير لنزول الاتراك إلى الشوارع لحظة حدوثه. وفي أغلب الظن كان لهذه المساهمة الدور الحاسم في إجهاض محاولة الانقلاب ولا سيما في مطار أتتاورك  وفي ساحة تقسيم حيث كان رفض محاولة الانقلاب الاميركي أعمّ وأشمل من الدفاع عن سياسة أردوغان والحزب الحاكم  كما ذكر متظاهرون لوكالات أنباء غربية. فواشنطن فقدت الكثير من صدقيتها في تركيا لأسباب متعددة ذات صلة بسياسة واشنطن في تفجير دول المنطقة. وقد يكون هذا الأمر من أسباب تنديد حزبي الشعب التركي والجمهوري المعارضيْن بالانقلاب.


لكن المحاولة الفاشلة بدت بدورها نصف انقلاب أو أقل في تحرّك ضعيف قد لا يرتقي إلى مستوى بعض الانقلابات العسكرية في الخمسينات. فهي لم تضم أيّاً من المؤسسات العسكرية المفصلية والحاسمة التي بقيت مخلصة للحكومة. ولم يظهر منها وجوه معروفة في خطاب واضح وصريح حتى يمكن التكهّن بان قادة الانقلاب استعادوا مسودة خطة لزمن غابر. 

فالاتهام موجّه إلى القائد السابق للقوات الجويّة أكان أوزتاك، وإلى محرم كوسي الذي وصف بأنه العقل المدبّر للانقلاب، وهو المستشار القانوني لرئيس الأركان الجنرال خولصي آكار. وعلى هذا النسق تحرّكت بعض الطائرات والمروحيات لقصف قيادة الاركان والقصر الجمهوري أو السيطرة على المطار وعلى مقر الاذاعة الرسمية والمرئية. أما السيطرة الفعلية على هذه المقرات عبر التدخل الميداني، فلم تدم أكثر من مدّة قراءة بين "مجلس السلام" الذي يعِد بدستور جديد، وعودة المذيعة نفسها عنه.

فالرئيس أردوغان الذي عجز الانقلابيون عن الوصول إليه في فوضى تحرّكهم البدائي، قلب المعادلة برسالة ألكترونية موجّهة إلى الشعب، في السياق الذي كان ينتظره أردوغان من رفض انقلاب أكثر التصاقاً بواشنطن ومن رفض جموح غولن للسلطة أكثر من جموح أردوغان.

فشل المحاولة قد يأخذها أردوغان فرصة للتخلص من معارضين في إدارات الدولة وفي المؤسسة العسكرية، بحسب التهديدات التي يطلقها أردوغان بشأن "الثمن الذي سيدفعه الخونة" كما يقول.

لكن أردوغان ربما يستند إلى فشل محاولة انقلاب هزيل، لتوسيع سيطرته على الحياة السياسية في تركيا استناداً لما يقول إنه تفويض شعبي يسعى إليه اردوغان بالدعوة لبقاء المتظاهرين في الشارع. 

يشير إلى هذا الاتجاه ما يصرّح به رئيس الوزراء بن علي يدريم عن إقصاء آلاف الموظفين من وظائفهم وعن تطبيق الأحكام العرفية من دون سند قانوني. 

بموازاة حملة التطهير السياسي تبشّر قيادات الحزب الحاكم ونخبته السياسية بانتصار الديمقراطية التي تمثلها الشرعية على الانقلاب. لكن هذه الديمقراطية التي وقفت في مواجهة الانقلابيين تجمع معظم التيارات السياسية الموالية والمعارضة. فاختصارها بالحزب الحاكم ورئاسته، قد تأخذ تركيا على الرغم من فشل الانقلاب إلى ارتدادات أكبر من محاولة انقلاب.