حروب حلب ترسم مستقبل سوريا
يحتدم النزال في حلب على ممرات بحجم ملعب كرة قدم أو ربما أصغر. خلال أسابيع قليلة سقط ما يزيد عن الخمسمئة قتيل في عمليات الكر والفر التي ثبتت توازناً على تخوم المدينة لا يبدو قابلا للصمود كثيراً. بالنسبة للقوى التي تسيطر على الأرض، حلب هي التي ستحسم ما إذا كانت سوريا متجهة ربما نحو التفتيت أم أنها ستبقى موحدة، هذا ينطبق أيضا على ما سيجري شمالاً عند جرابلس حيث يبدو الجار التركي مرتاحاً أكثر من المتوقع بل وأضحى المتوقع أن يستقر حتى يأذن الله بغير ذلك.
قبل أسابيع قليلة كان المشهد التركي ــ الإيراني يؤشر إلى تغير في مقاربة أنقرة للملف السوري، هذا على الأقل ما عكسته التصريحات التركية وتحديداً تلك الصادرة عن رئيس الوزراء بن علي يلديريم. ليس بالضرورة أن يكون الإنطباع خاطئا، لكن أنقرة التي تود الجلوس على طاولة المفاوضات لن تذهب إليها خالية الوفاض إنما تذهب محملة بأوراق تستعين بها في اللحظة المناسبة لمبادلتها بما ينفع.
صحيح انها أصبحت بعد الإنقلاب أكثر إستعدادا للحديث لكنها لم تقل قط إنها قررت التخلي عن خطوطها الحمراء في سوريا. لذا فخطوة الدخول العسكري إلى سوريا قد لا تكون مفاجئة في المبدأ لكنها بدت كذلك بالنسبة للتوقيت، لا سيما وأن الجميع كان يظن أن تركيا ما بعد الإنقلاب منشغلة بنفسها وأنها لن تغامر بتكليف الجيش مهمة من هذا النوع. ولعل ما قاله مصدر إقليمي رفيع "للميادين نت" يكفي لشرح الظرف الحالي "قطعاً ليس هناك من إتفاق بين طهران وأنقرة حول سوريا مع أنقرة وهناك قلق من الدخول التركي إلى شمالي سوريا". لكن هناك من يشير إلى وجود نوايا طيبة لدى الطرفين.
في هذا الإطار يأتي السؤال عن مدى قدرة النوايا الطيبة على تمتين طاولة حوار متهالكة الأرجل وعليها من الملفات ما يكفي ليطحنها، وهل توصل هكذا نوايا إلى حلول تتطلب تضحيات بمستوى الحدث؟
ربما يبقى هكذا سؤال من دون جواب، لا سيما وأن الحرب المتعددة الأطراف التي تعيشها المنطقة حبلى دوماً بالمفجاءات، بل إن الدول التي تملك معطيات ميدانية أو دبلوماسية أو سياسية، تعكس أحياناً بساطة في التعامل مع الأحداث التي تواجهها، أو ربما يصح القول إنها تعتمد منهج التمني في التفكير والتخطيط، فتبني على هذا التمنيات سياسات لتعود وتصطدم بواقع لا تتمناه أبداً، هكذا يظهر دائماً المربع الأول في وسط كل المشاهد السورية، مجدداً لحظة من لحظات البجعة السوداء.
في صقعة جنيف يحضر الكاستيلوــ الراموسة على خرائط
ميدانية يتدارسها الخبراء الأميركيين والروس. والراموسة في اللغة القديمة لأهل
سوريا، كما يقول المؤرخ عامر رشيد
مبيض، "رام الست عشتار" أي مطر الست عشتار وجرى تحويل الكلمة إلى
"رام الست" لتصبح لاحقا "راموسة". من المطر وإلهة الحب
والتضحية في الحرب، عشتار، إلى مطر القذائف، لم يبق من الراموسة سوى إسم على
الخارطة يناقش خلف البحار.
كذلك الأمر بالنسبة للكاستيلو، الطريق الإستراتيجي شمالي حلب الذي تستدعي عبره المعارضة المسلحة تموينها وسلاحها وعتادها وتدخل حلب وتخرج منها. والكاستيلو في الإيطالية تعني القلعة وهو الإسم الذي كان يطلق على مطعم إيطالي في المنطقة إشتهر بأعراسه وسهراته الطربية، دُمّر المطعم في إشتباكات في العام 2013 وبقي الإسم وطار ليدخل في معادلة المفاوضات الأممية وأضحى عاملاً مؤثرا في صناعة مستقبل سوريا.
يعرف الخبراء أن الإتفاق على تهدئة في حلب لن يكون بدون إيجاد مخرج لهذين الممرين، وأن كل هدنة تفشل في رسم إطار معين للتعاطي مع الكاستيلو والراموسة سيكون مصيرها الفشل، فالطرف المؤيد للحكومة يرى في كسر المعارضة للحصار على الأحياء الشرقية تهديدا للمدينة بأسرها. وهو ما قد يترتب عليها خروج الشمال بأسره عن سيطرة الدولة وبالتالي فرض التقسيم دون مقاومة تذكر.
أما العكس فسيعني للمعارضة نكسة لا يمكن تعويضها لا سيما وأن ساحات القتال الحقيقية المتبقية أصبحت بين حلب وإدلب ومؤخرا حماه، بينما دمشق تبدو متجهة بتؤدة نحو تثبيت الهدن والمصالحات تماماً كما حدث في داريا، المعقل المعارض الذي كان يبعد كيلومترات قليلة عن القصر الجمهوري السوري، والمعضمية، وغيرها من المناطق التي يبدو ان إخراجها من المعادلة الميدانية سيرفع من مستوى الراحة في دمشق. لكنه في آن قد يدفع بالمعارضة المسلحة وحلفائها للمزيد من التصعيد في المناطق الأخرى.
يحتدم النزال في حلب على ممرات بحجم ملعب كرة قدم أو ربما أصغر. خلال أسابيع قليلة سقط ما يزيد عن الخمسمئة قتيل في عمليات الكر والفر التي ثبتت توازنا على تخوم المدينة لا يبدو قابلا للصمود كثيراً. بالنسبة للقوى التي تسيطر على الأرض، حلب هي التي ستحسم ما إذا كانت سوريا متجهة ربما نحو التفتيت أم أنها ستبقى موحدة، هذا ينطبق أيضاً على ما سيجري شمالا عند جرابلس حيث يبدو الجار التركي مرتاحاً أكثر من المتوقع بل وأضحى المتوقع أن يستقر حتى يأذن الله بغير ذلك. هذا الواقع يدق نواقيس خطر في موسكو وطهران حيث كان التقييم الأولي يشير إلى عملية تركية محدودة وإنسحاب بعد تسليم الأراضي التي سيخرج منها تنظيم داعش إلى الجيش الحر أو يدور في فلكه.