تركيا وإيران: نهاية عقود العسل؟!
كان التماثل في السياقات بين إيران وتركيا خلال القرون السابقة مثيراً للاهتمام. الأعوام المئة وخمسون الأخيرة حملت كثيراً من التشابه والتقارب بما في ذلك مرحلة ما بعد الثورة في إيران وصعود نجم الإسلاميين في تركيا. لكنّ هذه الثقة التي امتدت لعقود وترجمت في دعم إيران لأردوغان إبّان محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/ يوليو 2016 تبدو أنّها أمام اختبار صعب نتيجة الأزمة السورية. فما يلبث أن ينتهي مفعول المهدئ المؤقت حتى يعود الصراخ مجدداً ليملأ المكان.
كان التماثل في السياقات بين
إيران وتركيا خلال القرون السابقة مثيراً للاهتمام. بيد أن الأعوام المئة وخمسين الأخيرة،
(إضافة إلى كونها شهدت علاقات مميّزة بين الجارين)، حملت كثيراً من التشابه والتقارب.
فقبل عزل رضا شاه في إيران كان أتاتورك قد أسلم الروح. وبعد الرجلين دخلت البلاد في
مرحلة من الرفاه السياسي. في إيران كان الحاكم إسمياً محمد رضا بهلوي نجل الشاه الأول،
بينما في تركيا تداول على السلطة عدد من الرؤساء. لكن المرحلة تمخضت في البلدين عن
أول انتخابات حرّة ونزيهة في بداية الخمسينيات، أوصلت إلى رئاستي حكومتي البلدين كلاً
من السياسي الإيراني المتمرد محمد مصدّق ونظيره التركي عدنان مندريس.
لم يطل الأمر على مصدّق ليطيح به انقلاب أميركي ــ بريطاني، سمي بعملية "أجاكس".
وأعاد الانقلاب تنصيب الشاه الإبن محمد رضا بهلوي في آب/ أغسطس العام 1953. ولم يصمد
مندريس في تركيا أبعد من العام 1960 حين أطاح به انقلاب عسكري. أُعدم مندريس ووضع مصدّق
في الإقامة الجبرية في مدينة أحمد آباد الإيرانية واستقر الحكم للجيش في تركيا وللملك
في إيران حتى أواخر السبعينيات.
مع الثورة الإسلامية في إيران
كان نجم نجم الدين أربكان يسطع في تركيا. فالخمسيني المؤسس لأحزاب إسلامية عدّة وصل
إلى موقع نائب رئيس الحكومة لكنّ انقلاب الجيش في آذار/ مارس العام 1980 وضع حداً لطموحاته
على نحو مؤقت، بيد أنّه وفّر للحالة الإسلامية التركية زخماً لم يكن موجوداً من قبل. في
العام 1996 كان حزب الرفاه الذي يتزعمه أرباكان في أفضل أيامه، وهكذا أصبح زعيمه رئيساً
للحكومة إلى أن اضطّر للاستقالة عام 1997 بأمر من الجيش.
ومع إطلالة الألفية الجديدة
عاد الإسلاميون ليصعدوا السلم بوجوه جديدة وأصبح رجب طيب أردوغان وعبد الله غل، من
تلامذة أرباكان السابقين، قادة الحزب الجديد، فتقاسما السلطة بين رئيس للجمهورية ورئيس
للحكومة وبالعكس، إلى أن انتهى المطاف بأردوغان وحيداً على رأس الهرم التركي.
في 15 تموز/ يوليو 2016 كاد انقلاب عسكري يطيح بأردوغان وينهي حقبة حزبه العدالة والتنمية في السلطة التي امتدت منذ العام 2001. وفي اللحظة المحورية تلك، وبينما يتحيّن كثر من خصوم تركيا في المنطقة والعالم، لحظة سقوط أردوغان الذي انقلب شعار سياسته من صفر مشاكل إلى صفر أصدقاء، كان المرشد الإيراني السيد علي خامنئي يوجّه مسؤوليه الرئيسيين للتواصل مع القيادة التركية وسؤالها إن كانت تحتاج لأي نوع من الدعم.
روسيا كانت بدورها، رغم الخصومة التي تسبّب بها إسقاط طائرة حربية روسية على الحدود مع سوريا، تمدّ يد العون لخصمها الجديد وتقدّم له معلومات إستخبارية تنقذه من المصير المحتوم. في تلك الليلة لم تجد أنقرة إلى جانبها سوى موسكو وطهران.
وقفت أنقرة مجدداً على رجليها، لكنها وجدت نفسها وسط حرب على جبهات متعددة. فهي تواجه في الداخل جماعة الداعية فتح الله غولن، وحرباً ضروساً إلى الشرق مع الأكراد، وحرباً حتى النخاع على الجبهة السورية. العراق بدوره شكل جبهة أخرى مشتعلة قد يجد أردوغان نفسه في أي لحظة مضطراً لخوضها. هذا إلى جانب صراع الهوية القاتل الذي تعيشه البلاد. فتركيا التي كانت حتى سنوات قليلة مضت علمانية تريد الإلتحاق بالغرب، (هكذا على الأقل تربى أبناؤها)، ها هي اليوم تقدّم نفسها إسلامية تريد أن تقود الشرق ولا تدري إذا كانت قادرة على التوفيق بين ما تمنّي به النفس وما هو ضروري لأمنها القومي. وحين خرجت أنقرة من أزمتها تتلمس خارطة طريق تحالفاتها، بدت روسيا أفضل من يمكن البدء ببناء الثقة معه. هكذا رأت أنقرة، أما طهران فهنا على ما يبدو كانت تكمن المشكلة بالنسبة للأتراك.
خمس سنوات من الحرب السورية ومن تضارب المصالح على امتداد المنطقة يبدو أنه مزّق جدار الثقة بين أنقرة وطهران. لعلّ تركيا تعتقد أنها على حق في ما تقوم بها، وربما يؤمن أردوغان بأن ما يفعله في سوريا واجب إلهي. الأمر هو ذاته بالنسبة لإيران، التي ترى قيادتها أن الحرب في سوريا دفاع مقدس وأن الدور الذي تقوم به هناك هو الحق بعينه.
بين حق حتميّ هنا وحقّ حتميّ هناك قطعاً لا محلّ للجسور مهما أظهر طرف للآخر من حسن نوايا ومهما عبّر واحد للثاني عن حبّ وغيرة وحرص. ما بين الإيرانيين والأتراك حالياً لا يختلف كثيراً عما كان بينهم خلال سنوات ما قبل اتفاقية أرضروم (1 و2). المدى الحيوي للأمن القومي خرج عن الحدود المرسومة سابقاً، والتنافس وصل إلى أوجه في ظل فراغ كبير على امتداد الخريطة من قصر شيرين إلى اللاذقية. ليس ممكناً على ما يبدو رتق الأفتاق التركية ــ الإيرانية، ولا الكلام الإيجابي، ولا المبادرات، ولا اللقاءات أو التنسيق وغيرها، فكل هذه المحاولات يمكن أن تلعب دور المهدّئ المؤقت الذي ما أن ينتهي مفعوله حتى يعود الصراخ مجدداً ليملأ المكان.
حلفاء إيران ربما يبدون سعداء بالتهجم التركي. وحلفاء أنقرة لا تسعهم الدنيا جراء التصعيد التركي يوماً بعد يوم ضدّ طهران. فالصراع اليوم لم يعد كما جرى تشخيصه سابقاً بأنه تناقض مصالح في مناطق الحلفاء واتفاق مصالح على حدودي البلدين. الأخطر اليوم أن المنطقة بأسرها في وضع يسمح بتطور التوتر إلى ما هو أكثر من ذلك في ظل تواجد قوات برية لكلا الطرفين على مساحة واحدة. الأكثر خطورة هنا أن البلدين إنتهى بهما المطاف طرفين رئيسيين في صراع المنطقة، ومؤتمر أستانة الأوّل رسخ المشهد عبر جمعهما معاً كطرفي نزاع لا كشريكين في حله. التعقيد الإضافي للمشهد يأتي من الولايات المتحدة التي يبدو أن تصعيدها الكلامي ضد طهران يشكل نوعاً من الإغراء لأردوغان لإعادة التموضع مجدداً مع دولة كبرى، ولا سيما أن حليفته اللدودة إيران، تبدو بدورها مرتاحة إلى حد ما على جانبها من الخريطة.