ما وراء تراجع البنتاغون عن تهديدات ترامب؟
تهديد البيت الأبيض بأن سوريا "ستدفع الثمن غالياً"، سرعان ما تراجع عنه وزير الدفاع الأميركي بدعوى أن الرئيس بشار الأسد أخذ التهديد على محمل الجدّ. لكن مناورة دونالد ترامب الافتراضية في سوريا، قد تكون سبيلاً مأمولاً لتعزيز قدرته على لمّ الشمل في واشنطن وباريس.
وفي أغلب الظن ساهم العدوان الأميركي على الشعيرات بتخفيف الوطأة عن الاتهامات الكثيرة الموجهة إلى ترامب في واشنطن وفي أوروبا. ولا ريب أن هذا العدوان هو ما أطلق السعودية من عقالها في المراهنة على رئيس أميركي انتظرته السعودية طويلاً أملاً بتغيير ما اتهم به باراك أوباما من ضعف وتردد.
لا تبدو الاستخبارات الأميركية ووزارتا الدفاع والخارجية، على بيّنة من صدقية المزاعم التي أعلنها البيت الأبيض بشأن ما سمّاه احتمال استخدام السلاح الكيماوي في سوريا. بل على العكس من ذلك تبيّن أن هذه الجهات المعنية بجمع المعلومات وبالتحضير لأي عدوان، أنها ليست على علم بما يُثار، كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز. ولعل نفي البيت الأبيض لتشكيك الصحيفة بدلاً من هذه الجهات، يؤكد ما ذهبت إليه ولا ينفيها. بينما حذّر عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي "تيد ليو" من أن تهديد البيت الأبيض غير قانوني.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يحتاج بدوره إلى موقف بطولي وهمي في الساحة الدولية، تلقّف المناسبة في إعلانه مشاركة ترامب في العدوان الافتراضي أو حتى استعداده لقصف من جانب آحادي فرنسي في حال استخدام السلاح الكيميائي. فهو يستعد لمعركة قاسية مع النقابات والشارع الفرنسي المنقسم إلى جبهتين، لنزع معظم المكتسبات الاجتماعية والحقوق الطبيعية. فيأمل أن تعينه الهالة الخارقة التي تسمه بها النخبة السياسية، على ترجيح كفته في هذه المعركة الداخلية وفي تعزيز صورة المنقذ من الانحدار الفرنسي. وفي هذا السياق ينضم وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون بشرط أن يكون العدوان مبرراً وقانونياً، بحسب تعبيره.
السفيرة الاميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي تتوعّد بألاّ يكون تهديد البيت الأبيض رسالة للرئيس الأسد وحده، بل بأن تكون رسالة لروسيا وإيران أيضاً في إشارة إلى إذكاء الحميّة الأميركية المعادية لروسيا وإيران، حول ترامب في حرب طواحين الهواء. فالرد الإيراني على لسان أمين مجلس الأمن القومي علي شمخاني، جاء حازماً محذراً من اللعب بالنار. وهو تحذير في متناول اليد في سوريا وفي العراق حيث تواجد القوات الأميركية، في حال المجابهة المفتوحة.
ولم تكن موسكو أقل حزماً سواء على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائبه "غينادي غاتيلوف" ولسان المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف"، أم في الرسالة العسكرية الرمزية التي حملتها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى قاعدة حميميم وقمرة الطائرة "سو 35" بصحبة رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة الجنرال فاليري غيراسيموف. قد يكون مفاد هذه الرسالة في قمرة الطائرة، أن الطائرات الروسية يمكنها مرافقة الطائرات السورية في عملياتها لقطع الطريق على تلفيق تهمة استخدام السلاح الكيميائي، ورد الكرة في الملعب الأميركي إلى ترامب الذي يحرص على عدم التصادم مع روسيا كما تحرص موسكو على عدم الاشتباك.
أمام هذا السد على الأرض حيث يتقدم الجيش السوري بين القنيطرة والحدود العراقية والسدّ الآخر في الجو حيث تهدّد موسكو بالتصدي لأي هدف معادٍ إذا لم يتم التنسيق معها، ربما لا يبقى أمام ترامب أكثر من إطلاق بعض الصواريخ على عواهنها بعد التحوّط للأمر مع موسكو. لكن مثل هذا العدوان قد لا يكون له الوقع نفسه الذي حظي به ترامب في عدوان الشعيرات. وذلك بسبب عدم ضمانة ردّ الفعل من قبل الجيش السوري وحلفائه وبسبب عدم التكافؤ بين التهويل بعدوان "الثمن الغالي" كما يهدّد البيت الأبيض، لا يسفر ربما عن أكثر من ضربة صاروخية لرفع المعنويات. فبين هذين السدّين قد يكون تراجع البنتاغون عن تهديد البيت الأبيض ربحاً مجانياً صافياً في العالم الافتراضي الأميركي الذي يظن أنه ربح معركة الإعلام في مزاعم احتمال هجوم كيميائي، وربح أيضاً عندما أخذ الرئيس الأسد التهديد على محمل الجد بحسب وزير الدفاع الأميركي. ففي العالم الافتراضي غالباً ما يكون مخيال الربح رحباً حتى يصطدم الرأس بالأرض.