كيف تمسك واشنطن الصراع الخليجي بإصبعين؟

جولة وزير الخارجية الأميركية على دول الخليج، تسعى إلى "تخفيف التصعيد" وليس إلى حل الأزمة كما يقول مستشاره. لكن هذه الجولة التي يقطعها تيليرسون عائداً إلى الكويت والدوحة من جدة، ربما تهدف إلى أن تلعب واشنطن بين أطراف الأزمة على مدى غير طويل. فما هي الأسباب الاقتصادية والاستراتيجية؟

الدول الأربعة المقاطعة، ردّت على قول "تيلرسون" بأن الدوحة أوّل من تجاوب مع متطلبات قمة الرياض
بعد أن أرجأ وزير الخارجية الأميركية جولته على الدول الخليجية، حين تسلّم الملف في بداية انفجار الأزمة بحسب تصريح وزير الدفاع "جيمس ماتيس"، يحطّ بعد لأي في العواصم الخليجية المعنية. في هذا الشأن يقول "تيلرسون" الذي يردد منذ حين رغبته بدعم الوساطة الكويتية، إنه يبحث عما سماه "أرضية مشتركة" بينما وصفه بعض المحللين الغربيين والخليجيين بأنه "لا يملك رؤية واضحة للحل". لكن هذه الحال ربما تشير إلى أن واشنطن التي تحظى بنفوذ وتأثير لا جدال فيهما في الخليج، ترى مصلحتها في إطالة أمد الأزمة بين قطر وخصومها لأسباب أميركية خاصة متعددة. فالظهور بمظهر "الوسيط" والتواضع في احترام سيادة الدول وقرارات حكامها، لم تعتد عليه واشنطن مع حلفائها في الخليج وحتى مع حلفائها في أوروبا الغربية. وهو ما يؤكد السعي الأميركي للتلاعب بأوراق الأزمة الخليجية الحالية.

الدول الأربعة المقاطعة، ردّت على قول "تيلرسون" بأن الدوحة أوّل من تجاوب مع متطلبات قمة الرياض، فذكر بيانها أن هذه القمة الأميركية ــ الإسلامية هي التي شكلت موقفاً صارماً لمواجهة الإرهاب، في إشارة ضمنية إلى أن واشنطن هي التي أشعلت فتيل الأزمة مع قطر. ولمزيد من الوضوح يقول رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى السعودي زهير الحارثي، "إن أميركا هي أول من أشار إلى دعم قطر للإرهاب" في قمة الرياض. وقد يكون هذا الدفع الأميركي قد أطلق سجيّة الدول الأربعة التي ذهبت في مطالبها إلى عتبة إعلان الحرب وتحديد مهلة عشرة أيام، من دون أن تأخذ في الحسبان أن وراء الضوء الأصفر الأميركي في قمة الرياض ما وراء الأكمة.

صحيفة "الواشنطن بوست" تعزو هذا التناقض بين التصعيد الأميركي في قمة الرياض وبين "دعم الوساطة الكويتية" على لسان المسؤولين، إلى خلاف في وجهات النظر بين ترامب ووزير خارجيته الذي يحاول تخفيف التصعيد. لكن بقطع النظر عن تأويل النوايا السياسة لكل من المسؤولين في الإدارة الأميركية، فإن سياسة واشنطن الفعلية تجاه الصراع الخليجي هي تفجير الأزمة للإمساك بكل بلد على حدة بذريعة البحث عن حل للأزمات. ففي اللحظات الأولى حين توجّست قطر من إمكانية غزو عسكري أو انقلاب في أجواء عسكرية مشحونة، عقدت واشنطن صفقة سلاح مع قطر وأجرت مناورة تدريبية في إشارة إلى الاستمرارية بمزيد من المنحى التجاري الذي تحتاجه واشنطن في قطر على ضوء صفقات قمة الرياض. كما أن واشنطن سكتت عن تعزيز تركيا تواجدها العسكري في قطر، في إشارة إلى أن السكوت علامة الرضى مثلما يسكت تيلرسون خلال جولته الخليجية عن الدفعة التركية الخامسة.

في هذا المجرى الأميركي تجاه قطر والخليج، تعبر الدول الغربية الأخرى التي يردد زعماؤها بدورهم دعم الوساطة الكويتية. فوزير الخارجية الفرنسية "جان إيف لودريان" يذهب في جولة خليجية ويحط في قطر مع شركة "توتال" لتوقيع اتفاق قطري باستثمار للشركة حقل الشمال. ومستشار الأمن القومي البريطاني "مارك سادميل" يحذو حذو وزير الخارجية "بوريس جونسون" لعقد صفقات سلاح وزيادة استثمارات قطر في بريطانيا البالغة حوالي 40 مليار جنيه إسترليني. وفي موازاة هذا العبور الغربي إلى الخليج على مستوى المسؤولين، تلتهم قوى كثيرة في الدول الغربية ما تيسّر من أموال الإنفاق على الأزمة على مستوى مكاتب المحامين وبيوت الخبرة والاستشارات وعلى مستوى لوبيات الضغط التجاري والسياسي لمصلحة قطر أو لمصلحة السعودية والإمارات.

وسائل الإعلام الغربية المرموقة في الدول الغربية تأخذ نصيباً من هذا الإنفاق السخي بحسب الطلب وكذلك مراكز الدراسات والأبحاث التي يرأسها قدامى الجنرالات ورجال الإدارات السياسية. فصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تتهم بين حين وآخر السعودية بدعم الإرهاب. بينما تتهم "واشنطن بوست" قطر بدعم الإرهاب في حين تتداول وسائل الإعلام أقوالاً مغايرة. وفي هذا السياق تدخل صحيفة "لوروبيبليكا" الإيطالية وغيرها. لكن كل هذه "النثريات" المالية بما فيها الصفقات الكبرى والصغرى أساسها الرؤية السياسية الأميركية لعلاقتها مع الخليج.


الاتفاق الذي وقعه "تيلرسون" في الدوحة تحت مسمى "المذكرة التنفيذية لمكافحة الإرهاب"، يأتي بعد اتفاق جماعي في الرياض جرى خلاله التوقيع على اتفاقيات مشابهة. لكن الاتفاق المنفرد ربما يدلّ على أن واشنطن تسعى إلى اتفاقيات منفردة مع كل دولة على حدة، أملاً بإصبع أميركي مباشر في كل شاردة وواردة بذريعة تنفيذ مكافحة الإرهاب. ولعل السعودية التي تتخوّف من انفراط عقد الخليج كما تُنذر "فايننشايل تايمز" البريطانية، تحاول جاهدةً العودة بالدول الخليجية إلى الحضن السعودي وفق ما أوعزت إليه في نشر وثائق سرية خليجية عبر شبكة "سي أن أن". وهي تسعى جاهدة إلى وقف ما تسميه "شراكة استراتيجية" مع الولايات المتحدة عند ما كانت عليه حين كانت السعودية مملكة فوق مشيخات. وقد تكون هذه الأزمة بمجملها تعبير عن مأزق سعودي في التكيّف مع المتغيرات في المنطقة وفي الخليج، حيث تتخبط السعودية في مهلة العشرة أيام من دون أن يكون لديها خيار لليوم التالي أو من دون خطة لخفض التصعيد والتراجع. أمام هذا الحائط تبحث دول خليجية أخرى كسلطنة عمان عن أفق آخر مع طهران، ويبحث "تيلرسون" بين إصبعيه عن تشبيك الخيوط القطرية والسعودية.