شكليّات وذكريات سيئة تؤخر تعبيد طريق أنقرة-دمشق
اللحظة الراهنة تقرّب الأهداف السورية والتركية من بعضها البعض، بعد أن سقطت رهانات أردوغان على الازمة السورية. ولكن الوقت لم يحن بعد للقاء سوري تركي مباشر.
ولكن المتغير الأهم في أحوال الصراع في المنطقة كان ظهور ترجمة عملية للتفاهمات الروسية-الإيرانية-التركية المستمرة حول الوضع في الشمال السوري تحديداً. استعاد الجيش السوري حلب تحت أعين القوات التركية التي تبعد عن المدينة أقل من 30 كلم. احتفلت حلب العائدة إلى كنف الدولة، فأكملت ثلاثية المدن الرئيسة لسوريا "دمشق-حلب-حمص". وأسقطت كل ما حُكي في السنتين الأخيرتين عن خطط لتقسيم البلاد، وتوزيع حصص طائفية على الأطراف والدول المتحاربة.
غير أن التساؤل الأكبر الذي طرحته هذه التفاهمات هو عن معنى غياب الولايات المتحدة عنها، بل وقوف واشنطن في الجهة الخاسرة من ميزان اللحظة الراهنة. فالأميركيون أطلقوا السباق مع روسيا من خلال إعلان أن اللحظة مناسبة لتحرير الموصل (لعبة الوقت الميت: حلب-الموصل)، وفتح معركة الرقة مع حلفائهم في "قوات سوريا الديمقراطية". روسيا دعمت من جهتها معركة تحرير حلب. فيما أطلقت تركيا انتزاع السيطرة من "داعش" على مدينة الباب.
استعادت دمشق حلب، فيما التقدم في معركة الرقة ما زال بطيئاً جداً. وهو في معركة الموصل أكثر بطئاً. وأنقرة تعاني من تعثّر كبير في سعيها إلى السيطرة على مدينة الباب، ما يعني عملياً أن موسكو ودمشق هما الأكثر استفادةً من اللحظة الراهنة، قبل أن ينضم أردوغان إلى كفّة الرابحين. في الصيف الماضي كان أمام دمشق وأنقرة.. خطران وفرصة:
الخطر الأول: انفصال الكرد.
الخطر الثاني: إقامة تركيا للمنطقة الآمنة، ثم التوسع وربما البقاء فيها.
أما الفرصة فكانت: استعادة التنسيق التركي-السوري ونسج مصالح مشتركة ما قد يفتح الباب للحديث عن نهاية الأزمة السورية بصورةٍ جدية.
أما اليوم فقد سقط الخطران، وبدأت الفرصة بالتحقق، ليس عبر التنسيق المباشر بين دمشق وأنقرة، إنما عبر تنسيق غير مباشر من خلال تفاهمات موسكو-أنقرة-طهران.
وبنتيجة ذلك، رسمت أطر الحل النهائي للأزمة السورية، قبل تفرّغ دونالد ترامب لشؤون السياسة الخارجية. فاختيار اللحظة التي سرق فيها الروس لبّ أردوغان كان موفقاً جداً، حتى بات الأخير أقرب إلى خيارات موسكو، بعد الصدع الذي أحدثه الانقلاب الفاشل في علاقته بالإدارة الأميركية المنتهية الصلاحية. ولكن ما الذي ستربحه أنقرة؟ وهل يثبّت الحل السوري من دون واشنطن؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول (في الخطاب السنوي 2016) إن "العمل لتحقيق الصلح الشامل بسوريا سيستمر بمشاركة كل الأطراف المعنية". لا شك أنه منفتح على ترك هامش للأميركيين، من دون أن يعني ذلك الرضا بأيٍ من مطالب كلينتون ثم كيري بعدها. بل إن القبول بدورٍ لواشنطن يعني إضافة مسؤولٍ أميركي إلى الصورة التذكارية للحلّ السياسي في سوريا. فالميدان قد حسم فعلاً القوى الرابحة في هذا الصراع.
أما ما ستربحه أنقرة، فهو بدأ حين أعادت روسيا الحياة لخط "السيل التركي" الذي يغذي تركيا بالغاز الروسي، وعند إعادة التبادل الزراعي بين البلدين، عودة العلاقات المشتركة إلى تحسنها، وقبول موسكو بعمل أنقرة ضد مشروع إنشاء دولة كردية على حدود تركيا. هذا ثمنٌ مقبول لأنقرة بعد سقوط رهاناتها الكبرى على الأزمة السورية.
ولكن تركيا التي ترك لها أن تتدخل في الباب، تبدو مهمتها صعبة مع استماتة "داعش" في الدفاع عن مواقعه في المدينة، واستخدامه أقسى مشاهد الحرق والقتل لإرهاب القوات المهاجمة. فالتنظيم أيضاً في وضعٍ لا يحسد عليه، وخسارة الباب تعني نهايةً انحساراً متزايداً له بين دير الزور والعراق، وهي مناطق صحراوية بصورةٍ عامة.
أما مهمة الجيش السوري في استكمال استعادته للمناطق المهمة من البلاد فتبدو أسهل من المهمة التركية، كون عدوه الأبرز "داعش" يواجهه نظرياً كل من "الجيش العراقي، التحالف الأميركي، الجيش التركي والتنظيمات المنافسة الأخرى". فيما يواجه الجيش السوري هذه الأخيرة فقط، و"داعش".
كما أن لسيطرة الأتراك على الباب أهدافاً إن تحققت، سيعود الحديث في المرحلة النهائية إلى مسألة تسليم المدن السورية لجيش البلاد الرسمي، وأوّلها الباب. وهذه الأهداف تتمثل في إبعاد الخطر الإرهابي عن تركيا، ومنع الكرد من تشكيل دولة لهم. وهي أهداف مشتركة مع دمشق. لم يبق من تحالف دمشق وأنقرة سوى الشكليات. وذكريات سيئة في رأسي أردوغان والأسد. يبدو الأخير أكثر واقعية حيالها.