لماذا فوجِئَ العربُ بتلاحم فلسطينيي الـ48 مع شعبهم؟
يبدو أنَّ من تفاجأ لا يعرف هذه الحقائق التاريخية، ولم يتابع انتخابات الكنيست في الجولات الأربع الأخيرة وموقف فلسطينيي الـ48 منها.
في عالمنا العربي، الكبير في حجمه والصغير في تأثيره، فوجِئَ الكثيرون بتلاحم الفلسطينيين في نضالهم ضد المحتلّ الإسرائيلي الصهيوني، وأكثر ما فاجأهم هو التحرك الجماهيري للشباب الفلسطيني داخل المناطق المحتلة العام 48، فكان السؤال المركزي لدى الكثير من الإعلاميين: ما سرّ ذلك؟ كيف حصل بعد 73 عاماً من المواطنة وحمل الجنسية الإسرائيلية؟ وما الذي يترتب عليه في المستقبل؟
أسئلةٌ ومفاجآت كثيرة تداولتها وسائل الإعلام العربية والإسرائيلية، ولكنَّ العالِم بالأمر لم يُفاجَأ بهذا التلاحم، ولا أقول التّضامن، إنما يُفاجَأ بمن تفاجأوا. ربما نسِي العالم الغربي أن فلسطين هي الأرض الممتدة بين منابع نهر الأردن حتى رأس الناقورة شمالاً، وحتى رفح وأم الرشراش (إيلات) جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى نهر الأردن شرقاً، لكنْ أن ينسى العالم العربي ذلك، فهذه مفاجَأَة فعلاً!
ربما نَسِي العالم الغربي أنَّ الحركة الصهيونية احتلّت 78% من فلسطين في العام 1948، وهجَّرت الغالبية العظمى من أهلها في هذه المناطق، فأصبحوا لاجئين مشرّدين يعانون العذاب حيثما حلّوا. ولم يقتصر اللجوء على من هُجِّر إلى خارج الوطن أو خارج حدود "إسرائيل" أو ما يُسمى "الخط الأخضر"، بل طال التهجير جزءاً لا بأسَ به من الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر"، الذين أصبحوا اليوم أكثر من 350 ألف إنسان، لكنَّهم خارج قراهم ومدنهم، فصادرت حكومة الاحتلال أراضيهم ومنازلهم وأموالهم المنقولة، واعتبرتهم وفق قانون سنّه الكنيست في العام 1950 "حاضرين غائبين".
هل سمعتم عن مكانة "حاضر غائب" لمجموعة سكانية في العالم سوى في هذا الكيان "الديمقراطي"؟ وهل فكَّر المتفاجِئون كيف يمكن لهذه المجموعة السكانية أو لمجموع الفلسطينيين الذين صمدوا في وطنهم بعد النكبة أن يندمجوا في نظام المحتل، ولا سيّما أنّ هذا النظام لا يريدهم، وإن قبلوا به، طبقاً للمثل القائل: "قبِلنا بالأقرع والأقرع ما قبل فينا"؟ ربما نسِي الغرب ذلك. أما أن ينساه العرب، فهذه مفاجَأَة أيضاً!
منذ احتلال فلسطين في العام 1948 وحتى منتصف الثمانينيات، كان الموقف العربيّ العام لا يرى فلسطينيي المناطق المحتلّة عام 48. كانوا منسيين في الوجدان العربي الذي لم يكن يشعر بوجودهم أو كانت الغالبية ترى فيهم خونة ومتعاونين مع المحتل الصهيوني لمجرد قبولهم الجنسية الإسرائيلية، من دون أي اعتبار للظروف والتحديات والخيارات التي واجهتهم آنذاك، ومن دون اعتبار لتأثير تآمر الأنظمة، العربية والغربية على السواء، فيهم خاصة، وفي شعبهم عامة، لمصلحة المحتل الصهيوني. منسيّون نعم، لكنّهم لم ينسوا يوماً أنهم فلسطينيون.
استفردت بهم الحركة الصهيونية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ففرضت عليهم الحكم العسكري، وحدَّدت حركتهم وعملهم وتعليمهم وحقوقهم الأساسية، وصادرت معظم أراضيهم، فكان "العربي الجيّد هو العربي الميت"، وفق تعريف غولدا مئير. وفي "أفضل" الأحوال، هو العربي المطواع أو العميل الذي يخدم "دولة" الاحتلال.
مع ذلك، وبعد هزيمة العرب جميعاً في حزيران/يونيو 1967، نهض الفلسطينيون في الداخل، وانضمّوا إلى الكفاح الفلسطينيّ المسلّح، فكان منهم الشّهيد والجريح والسجين الأمني، حتى بلغ عدد السّجناء الأمنيين أكثر من 250 مناضلاً، وما زال بعض من انضمّ لاحقاً إلى صفوف المقاومة الفلسطينية المسلحة يقضي حياته في الأسر حتى اليوم.
خلال هذه الفترة من التاريخ، نشأت في الداخل ثقافة المقاومة؛ أدب المقاومة وشعراء المقاومة. هل يستطيع أن ينكرها أحد؟ لم ينشأ هذا الأدب والشّعر في أيِّ عاصمة عربيّة أولاً، بل نشأ في حيفا والناصرة وقرى الجليل والمثلّث، بين ضلوع هؤلاء المنسيّين. وكان محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وقافلة طويلة من الشعراء والأدباء رموز ثقافة المقاومة وهم في بطن الحوت أو تحت وطأة الحصار المطبق عليهم.
في العام 1976، انتفض الفلسطينيون داخل أراضي الـ48 للدفاع عن أرضهم المصادَرة من قبل حكومة الاحتلال، فقدّم 6 شهداء أرواحهم على مذبح الحرية، وكان يوم الأرض يوماً تاريخياً وطنياً فلسطينياً بامتياز، سجّله فلسطينيو الـ48، المنسيّون من أمتهم، وحتى من بعض قيادات شعبهم، آنذاك.
لقد تكلَّلت هذه النهضة الوطنيّة بإعلان وثيقة حزيران/يونيو في العام 1981، والتي حددت هُوية هذا الجزء الصامد في وطنه بالقول: "نحن جزء حيّ وواعٍ ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني. هذا وطننا، وليس لنا وطن سواه". هل نسيتم؟
في حزيران/يونيو من العام 1982، كان فلسطينيو الـ48 أوّل من نزل إلى الساحات والشوارع ضد العدوان الصهيوني على لبنان، ودفاعاً عن المقاومة الفلسطينية واللبنانية هناك، قبل أن يتحرّك أيّ عربي في أي دولة عربية، حتى إنَّ الشهيد الراحل ماجد أبو شرار خاطبهم آنذاك قائلاً: "أنتم أشرف ما في الأمة من محيطها إلى خليجها".
وفي ظلِّ الترهّل العربي عامة، والترهّل الفلسطيني الرسمي في الصحراء التونسية خاصّة، انتفض شعبنا في العام 1987، وكان للفلسطينيين في داخل فلسطين التاريخية دور كبير في تحريك الرأي العام الدولي نصرةً للشعب الفلسطيني المنتفض، وفي إمداد أهلنا المنتفضين في الضفة والقطاع بما يحتاجونه من مقومات الصمود في وجه المحتل.
فرح هؤلاء المنسيون باتفاق "أوسلو"، باعتباره اتفاقاً مؤقتاً وانتقالياً، وخطوة نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعودة اللاجئين، كما فُسِّر لهم، ولكنهم فوجِئوا بأن الاتفاق ينساهم مرة أخرى، حين استثنى حقوقهم التاريخية في العودة إلى قراهم التي هُجِّروا منها، واعتبرهم إسرائيليين، على غير ما كانوا يتوقعون ويحلمون. وعندما انتفض الشعب الفلسطيني في تشرين الأول/أكتوبر 2000 مرة أخرى، كان الشباب الفلسطيني في أراضي الـ48، "الجيل المنتصِب"، يأخذ دوره، مقدماً 13 شهيداً من خيرة أبناء هذا الوطن المعذّب على مذبح الحرية.
لم يَهِنوا، ولم يستنكفوا، ولم يصرخوا من هول صواريخ المقاومة اللبنانية التي طالت العديد من القرى والمدن الفلسطينية في الجليل خلال العدوان الإسرائيلي على المقاومة اللبنانية في العام 2006، وكان من بينهم شهداء وجرحى بنيران صديقة، وقالوا: هذا فداء للمقاومة، ولم ينصاعوا للتحريض الإسرائيلي على المقاومة.
إذاً، أين المفاجأة في تلاحم الشباب الفلسطيني داخل الـ48 مع انتفاضة شعبهم، ودفاعاً عن أشقائهم المهددين بالترحيل في القدس، في سلوان والشيخ جراح وبطن الهوي وأماكن أخرى من العاصمة؟ كيف لا! والمستوطنون الذين يهددون أهلنا في القدس بالترحيل هم الّذين يهددون أهلنا بالترحيل من يافا واللد والرملة وعكا وغيرها من المدن الفلسطينية التاريخية؟ ما المفاجأة حين يصل التهديد إلى حرمان الفلسطينيين من حقوقهم في الحرم القدسي الشريف، ومحاولة المستوطنين الصهاينة تقاسم الحرم زمانيّاً مع المسلمين؛ أصحاب الحقّ الحصري فيه؟!
الغريب والمفاجِئ هو تقاعس 1.5 مليار مسلم عن الدفاع عن القِبلة الأولى للمسلمين، وتقاعس 350 مليون عربي مسلم عن الدفاع عن عاصمة فلسطين، مدينة القدس، أرض الرباط إلى يوم الدين! هنا تكمن المفاجأة الحقيقية، وليس في تلاحم أبناء الشعب الفلسطيني داخل أراضي الـ48، وداخل الداخل، مع انتفاضة شعبية مباركة، وتلاحمهم مع المقاومة الصادقة بوعدها في قطاع غزة، دفاعاً عن أقدس حقوقهم الأساسية في وطنهم.
يبدو أنَّ من تفاجأ لا يعرف هذه الحقائق التاريخية، ولم يتابع انتخابات الكنيست في الجولات الأربع الأخيرة وموقف فلسطينيي الـ48 منها، حتى بلغت نسبة مقاطعيها في الانتخابات الأخيرة 56% من الفلسطينيين، ولا يعرف دور حركة المقاطعة الوطنية في تعزيز الموقف المبدئي وتفنيد مزاعم الداعين إلى الاندماج في إسرائيليّتهم، وفق مصالحهم وتعليمات أو "نصائح" مموليهم في رام الله وواشنطن وعواصم عربية تابعة لأميركا، ومطبّعة علناً أو سراً مع المحتل الإسرائيلي.
قد تكون المفاجأة بسبب تغييب قيادات حركة المقاطعة الوطنية عن شاشات الفضائيات العربية، نسبياً، وتحويلها إلى منصّات للزعماء الجدد الذين يحلمون بعضوية الكنيست الصهيوني، ويرون فيها منصات وطنية!
يبدو أنَّ المتفاجئين لا يعلمون ماهِية قانون القومية، آخر القوانين العنصرية، والذي سنَّه الكنيست الإسرائيلي، ويحظى بإجماع صهيوني، ويرى في الفلسطيني، وإن كان "مواطناً إسرائيلياً" في المفهوم القانوني، عدواً أو مواطناً من الدرجات الدنيا، كما لا يعلمون ما يعيه كل فلسطيني في الداخل بأن الجريمة المنظمة التي تحصد أكثر من 100 ضحية فلسطينية في الداخل سنوياً، ترعاها وتعززها شرطة "إسرائيل" وحكوماتها المتعاقبة.
ربما يكون هذا درساً لمن لم يتعلَّم الدرس بعد، بأن كل الإغراءات المادية والحريات الاجتماعية لا تغني عن الانتماء الوطني والحاجة إلى السيادة الوطنية الحقة. وربما يفهم المطبّعون العرب، الجدد منهم والقدامى، أن تطبيعهم لن يصل، في أيّ زمان، إلى مستوى الربط الخانق الحاصل بين فلسطينيي الـ48 و"دولة" الاحتلال. مع ذلك، لم يركع هذا الشعب لمصالحه المادية، ولم يتنازل عن حقّه في الحرية والسيادة على أرض وطنه.
ربما نسي البعض الفارق بين الوطنية والمواطنة، وبين الوطن والدولة، لكنَّ الفلسطينيين في أراضي الـ48 لم ينسوا أن هُويتهم فلسطينية، وإن كانت بطاقة الهُوية إسرائيلية، وأن وطنهم اسمه فلسطين، وإن كانت جنسية "الدولة" التي يحملونها قسراً جنسية إسرائيلية، لكنَّهم يعلمون ويعون أن الدول والكيانات تتبدل على أرض الوطن ذاته، إلا أن الوطن باقٍ إلى الأبد ما بقي الإنسان على أرض وطنه.