كيف نظرت أميركا إلى المعركة الأخيرة بين غزة و"إسرائيل"؟

"فورين بوليسي" تشير إلى أن الأهمية الاستراتيجية لـ"إسرائيل" أقل بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة" بالنسبة إلى واشنطن.

  • تصدرت
    تصدرت "ترسانة حماس الصاروخية" اهتمامات مختلف منابر النخب السياسية والعسكرية على السواء طيلة فترة الاشتباكات وما بعدها.

لم تستطع وسائل الإعلام الأميركية ومراكز صنع القرار الاستمرار بالتباهي بفعالية أداء التقنية العسكرية الإسرائيلية أمام استمرار المقاومة الفلسطينية بإطلاق صواريخها واختراقها الدفاعات الجوية للاحتلال ودرتها "القبة الحديدية"، التي تعاقد الجيش الأميركي لشرائها من "إسرائيل" في شهر شباط/فبراير 2019، نظراً إلى "احتياجات الجيش الفورية"، واحتوائها مكونات من صناعة شركة "رايثيون" الأميركية، بحسب بيانات الطرفين آنذاك.

سيستعرض "التحليل" الجوانب العسكرية في المواجهة الأخيرة في غزة بأبعاد أميركية وغربية صرفة، وتداعياتها على المشهد السياسي العام.

من غير المألوف إشارة الجانب الأميركي إلى ما لديه من "مخزون استراتيجي" ضخم من الأسلحة في المنطقة. لقد أوضحت نشرة النخب السياسية "بوليتيكو" أن واشنطن "أوجدت منشآت عسكرية احتياطية في إسرائيل لتخزين معدات عسكرية تشمل ذخائر وقنابل ذكية وصواريخ وعربات عسكرية". 

أما الهدف الأصلي، فهو "استخدامها من قبل القوات الأميركية في المنطقة"، لكن المعدات "تسلمتها إسرائيل في ظروف استثنائية للاستخدام خلال المواجهات، من ضمنها الحرب على غزة في العام 2014" ("بوليتيكو"، 19 أيار/مايو 2021).

في الشق العسكري الصرف، تصدرت "ترسانة حماس الصاروخية" اهتمامات مختلف منابر النخب السياسية والعسكرية على السواء طيلة فترة الاشتباكات وما بعدها. من بين تلك المنابر، نشير إلى مجلة المال والأعمال "فوربز"، التي نشرت تحقيقاً مطولاً من جزأين؛ الأول سلط الضوء على كيفية "تحكم ترسانة حماس بمجريات حرب غزة في أيار/مايو 2021"، والآخر سيصدر قريباً، وسيتناول "الأسلحة الإسرائيلية المستخدمة في الحرب وتأثيرها في حماس والغزاويين بشكل عام" (25 أيار/مايو 2021).

كما رصدت كبريات الصحف الأميركية، "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، وشبكة "سي أن أن"، تطور الترسانة الصاروخية في غزة، و"الإشادة" بفعالية القبة الحديدية، نقلاً عن "الناطق العسكري الإسرائيلي"، ما اضطر شبكة "سي أن أن" إلى التبرير بأن "القبة الحديدية الإسرائيلية لا تلاحق كل صاروخ ترصده" (18 أيار/مايو 202).

تجاهلت وسائل الإعلام الأميركية الكبرى قدرة تخطيط المقاومة لتفادي "القبة الحديدية" واختراق نطاق تغطيتها، وربما انفردت أسبوعية "ناشيونال إنترست" في التشكيك بفعالية منظومة الدفاع الجوي في الأيام الأولى للقصف الصاروخي، متسائلة: "هل تكفي قبة إسرائيل الحديدية لحمايتها من حماس؟"، واعتبرت "فشل حوالى 400 صاروخ من مجموع 1600 صاروخ أطلقتها حماس في الوصول إلى إسرائيل" نصراً يدعم السردية القائلة إن "نسبة النجاح في التصدي والتدمير تزيد على 90%" (13 أيار/مايو 2021).

مع تطور المواجهة واستمرارها فترة 11 يوماً متواصلة، يمكننا رصد تحولات أولية في مسلمات العلاقة الثنائية بين "الولايات المتحدة وإسرائيل"، وخشية النخب من انجرار واشنطن إلى حرب لا ترغب فيها في الشرق الأوسط، في الوقت الذي توجه مواردها الاستراتيجية باتجاه الصين وروسيا، ما دفع مجلة "فورين بوليسي" في 27 أيار/مايو 2021 إلى التأكيد أن "الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل أقل بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة" بالنسبة إلى واشنطن، بل ذهب بعض النخب السياسية إلى اتهام "إسرائيل بأنها نزيف كبير في الخزانة الأميركية"، وأنها "تستهلك موارد هائلة من المعونات العسكرية وغير العسكرية".

في بُعد قدرات فصائل المقاومة في غزة وأدائها، نقلت وسائل الإعلام الأميركية عن تقارير لمحطة "بي بي سي" البريطانية وغيرها، كي لا تسجل على نفسها مسؤولية الإقرار بعكس السردية النمطية والارتكاز على "الناطق العسكري الإسرائيلي".

ومنذ اللحظة الأولى، اعتبرت أن "أهم سلاح في ترسانة الفلسطينيين هو امتلاكهم مجموعة متنوعة جداً من صواريخ أرض – أرض، الجزء الأكبر منها مصنع محلياً. وقد أدت الخبرة والمعرفة الإيرانية دوراً مهماً في بناء هذه الصناعة" ("بي بي سي"، 14 أيار/مايو 2021).

أشار تحقيق مجلة "فوربز" إلى إطلاق "كتائب القسام وحركة الجهاد الإسلامي نحو 4،300 صاروخ من مجموع مخزون يبلغ تعداده 14،000"، لكن الصواريخ تعاني من فقدان "نظم توجيه" إلكترونية (25 أيار/مايو 2021). أما صحيفة "نيويورك تايمز"، فقد اعتبرت أن ما تبقى لدى حركة "حماس" هو 8،000 صاروخ (21 أيار/مايو 2021).

اللافت في تحقيق "فوربز" إقرارها الفريد بين قريناتها بأن "صواريخ حماس والجهاد لم تستهدف مراكز السكن المدنية بصورة حصرية، بل استهدفت 6 قواعد عسكرية إسرائيلية ومطارات على الأقل، ومنصات نفط بحرية، ومفاعلات توليد الطاقة وتوزيعها، وخزان نفط في عسقلان، وكذلك أنبوب نفط أسدود – إيلات، وأغلقت مجال السفر في عدد من المطارات الإسرائيلية". أما حجم الدمار الذي لحق بالمنشآت الإسرائيلية، فقد تم التغاضي عنه.

تكتيك فصائل المقاومة للتغلب على "القبة الحديدة"، بحسب التقرير، انصب على توجيه "صليات متزامنة وصلت إلى نحو 50 صاروخاً، للتغلب على بطاريات القبة الحديدية وإمطارها بأهداف أكبر من طاقتها".

وأضافت المجلة أن لدى "حماس" و"الجهاد" مخزوناً كبيراً من قذائف الهاون، منها نموذج 82- ملم السوفياتي، والأشد قوة 120-ملم، ونموذج "أتش أن-16" الإيراني الصنع، وهي أدق في الإصابة من الصواريخ، لكن مداها يتراوح بين 3 – 5 أميال، كما أنها تغطي المستوطنات الإسرائيلية وتمركز القوات على حدود غزة. وتسببت "صلية من 50 قذيفة هاون بمقتل اثنين من العمال التايلانديين في مجمع أشكول الإقليمي".

كما تضم ترسانة الصواريخ في غزة "مخزوناً كبيراً من الصواريخ القصيرة المدى، مثل القسام (بمدى يبلغ 10 كلم) والقدس – 101 (بمدى 16 كلم)، وصاروخ غراد (بمدى 55 كلم)، وصاروخ سجيل – 55 (بمدى 55 كلم)"، وكذلك مجموعة من الصواريخ الطويلة الأمد، "مثل أم-75 (بمدى 75 كلم)، الفجر (بمدى 100 كلم)، 160-آر (بمدى 120 كلم)، أم-302-أس (بمدى 200 كلم)"، إضافة إلى صاروخ "عيّاش 250" (بمدى 220 كلم) ("بي بي سي"، 14 أيار/مايو 2021).

الصاروخ المضاد للدبابات، "كورنيت"، نال حيزاً بارزاً من الاهتمام الأميركي، لكونه "روسي الصنع، ويعمل بأشعة الليزر الموجهة" بفعالية عالية "تؤهله لاختراق أكثر الدبابات تحصيناً عن بُعد لأكثر من 3 أميال". وتمتلك الترسانة في غزة صواريخ سوفياتية قديمة من طراز "ماليوتكا وفاغوت 9 أم 111، وقذائف كونكورس 9 أم 113، ونموذج صاروخ فاغوت من إنتاج كوريا الشمالية يدعى بولسيه 2" ("فوربز"، 25 أيار/مايو 2021).

واستطردت المجلة قائلة إن قيام قوات الفصائل الفلسطينية بإطلاق مضادات الدبابات كان "وسيلة فعالة وحيدة لاستهداف القوات الإسرائيلية، لكن هذه المضادات تعرضت لاستهداف إسرائيلي، زعم أنه قضى على 7 فرق منها، عبر موارد استخباراتية لرصد تلك المجموعات واستهدافها".

وأردفت قائلة إن المقاومة استخدمت "عدداً من الطائرات المسيّرة الهجومية في حرب أيار/مايو 2021، من دون رصد أي نجاحات، من ضمنها طائرة "شهاب" الانتحارية المصنوعة في غزة طبقاً لنموذج إيراني من طراز أبابيل-2".

واستناداً إلى ما نقلته عن "الناطق العسكري الإسرائيلي"، فإن "مسيّرة "شهاب" حاولت الانقضاض على منصة النفط البحرية، ولكنْ أسقطتها مقاتلة من طراز أف-16، وثمة مسيرة أخرى أسقطتها قبل القبة الحديدية". كما أكد "الناطق العسكري اعتراض 4 مسيّرات أخرى باستخدام وسائل سرية، ربما يقصد التشويش الإلكتروني".

لم يتطرق التقرير المطول المذكور إلى مسألتين بالغتي الأهمية، هما "كيفية اختراق حماس للقبة الحديدية"، وكيفية "تمكن غزة من تصنيع صواريخها وقذائفها في ظل حصار مطبق عليها".

في المسألة الأولى، اختراق القبة، استندت التغطية الإعلامية إلى تقرير لصحيفة "تلغراف" البريطانية بعنوان "كيف اخترقت حماس درع القبة الحديدية الشهيرة لإسرائيل؟"، للدلالة على إطلاقها "عدداً هائلاً من الصواريخ يمكنه أن يشكل تهديداً للقبة الحديدية، إذ تبلغ كلفة كل صاروخ اعتراض نحو 50 ألف دولار، وفقاً للجيش الإسرائيلي." 

صواريخ مصدرها مواسير مياه وذخيرة بريطانية

أما شبكة "بي بي سي" البريطانية، فقد أرجعت الأمر إلى "اختراق صيني، إذ تمكن قراصنة إلكترونيون من الاستيلاء على عدة وثائق سرّية من شركتين حكوميتين إسرائيلتين طورتا القبة الحديدية". وأوضحت أنها "اطّلعت على أدلة في تموز/يوليو 2014 تؤكد "الاختراق الذي استمر لعدة أشهر". وحول طبيعة "الأدلّة"، قالت الشبكة الإذاعية إنها تتعلق بـ"صواريخ آرو 3، وطائرات من دون طيار، وقذائف صاروخية"، لكن لم يؤكد أي من المصادر الرسمية أو شبه الرسمية ما ذهبت إليه "بي بي سي".

بالنسبة إلى التصنيع المحلي في غزة للترسانة والذخيرة المطلوبة، أوضح بعض الخبراء العسكريون أن "كتائب القسام نفذت مشروعاً أطلقت عليه جمع مخلفات القذائف والقنابل الإسرائيلية (بالآلاف) التي لم تنفجر في العام 2014، وقامت بإعادة تصنيعها واستثمارها، وضاعفت قوتها الصاروخية، وحققت كثافة وإدامة للنيران".

مصادر المواد الأولية كانت من المخلفات في باطن الأرض والبحر: "خطوط مياه إسرائيلية وذخائر غرقت في بحر غزة" خلال الحرب العالمية الثانية.

خطوط المياه، كما فسّر أولئك الخبراء، هي ثمرة "نجاح الفصائل الفلسطينية في الوصول إلى خطوط أنابيب طويلة وضخمة، كانت إسرائيل قد مدتها بهدف سرقة المياه الجوفية من غزة. وقد وفّرت هذه الأنابيب المعادن الكافية لصناعة الصواريخ" والصناعات الحربية الأخرى.

أما الذخائر القديمة الغارقة، فهي ثمرة "تمكن وحدة الضفادع البشرية لدى (كتائب) القسام من الوصول إلى بقايا مدمرتين بريطانيتين غارقتين في سواحل غزة منذ الحرب العالمية الثانية. وشكلت الذخائر المخزنة فيهما مصدراً جديداً زاد من القوة التدميرية للصواريخ الفلسطينية".

ما تقدم أعلاه من تفسير، يؤكده بعض أهالي غزة في أحاديثهم الشخصية، بناء على ما تلقوه من معلومات ميدانية من بعض المنتسبين إلى فصائل المقاومة. ويضيف هؤلاء أن "الفصائل الفلسطينية استثمرت بحر غزة كميدان تجارب للصواريخ الجديدة، ووظفتها في استهداف الترسانة المسلحة الإسرائيلية، وكانت نتائجها مجدية وفعّالة".

وبحسب تقرير شبكة "بي بي سي"، فإن كلفة صواريخ فصائل المقاومة "القصيرة المدى تقدر بين 300 – 800 دولار للصاروخ الواحد، مقابل ما لا يقل عن 50،000 دولار لصاروخ اعتراض القبة الحديدية، التي تحتاج إلى وقت طويل لإعادة تذخيرها"، مؤكدة في نهاية تقريرها أن "المخابرات الإسرائيلية في أحسن الأحوال لديها تقديرات غير كاملة" عن حجم الترسانة الصاروخية في غزة ("بي بي سي"، 13 أيار/مايو 2021).

وختمت مجلة "فوربز" تقريرها بالإشادة بالتصنيع المحلي قائلة: "أثبتت حماس قدرتها على التصنيع المحلي لترسانة صاروخية مترامية الأطراف، والتي بفضلها تستطيع إدامة استهدافها للمدن الإسرائيلية، على الرغم من القصف الإسرائيلي الهائل. ويمكنها توجيه قدرة نارية أكبر، وفي مديات أبعد مما شهدته إبان الحرب في العام 2014".

لا نجد مفراً من تناول ظاهرة تتداولها كبريات وسائل الإعلام الأميركية بالتزامن مع الانتصار المرحلي للجانب الفلسطيني، وهي استحداث "ارتفاع مؤشرات العداء للسامية" في أميركا تحديداً، وفي الدول الغربية بشكل عام. وتكاد لا تخلو تغطية من التذكير بذلك، لصرف الأنظار عن هزالة أداء الكيان وتراجع دوره الوظيفي في مجمل الاستراتيجية الأميركية، "وتصريف منسوب العداء بعيداً عنه"، ما اضطر الرئيس بايدن إلى التدخل المباشر وإقراره بأنه أجرى ما يزيد على "60 مكالمة هاتفية مع زعماء المنطقة" لفرض وقف إطلاق النار. وربما سيجري تناول تلك "الظاهرة" بتفصيل أعمق في المستقبل القريب.

أما بيانات استطلاعات الرأي الأميركية، فتشير إلى أزمة "إسرائيل" في مكان آخر، شكّل في السابق مخزوناً موثوقاً لدعمها، فقد تقلّصت مستويات تأييدها "بين صفوف المسيحيين الإنجيليين إلى 33%"، مقارنة بنسبة 75% في العام 2018 (استطلاع أجرته جامعة "نورث كارولينا في بيمبروك"، نقله "معهد بروكينغز"، 26 أيار/مايو 2021).

بعيداً من سطحية التناول الإعلامي "الموجه" لشيطنة الفلسطينيين، فإن للنخب الأميركية، بين عسكريين واستراتيجيين، رؤى متباينة مع المواقف الرسمية وأشد واقعية. على سبيل المثال، عنونت مجلة "فورين بوليسي" الرصينة مقالها بالتالي: "آن الأوان لإنهاء "العلاقة الخاصة" مع إسرائيل" (27 أيار/مايو 2021. وتساءل العنوان الفرعي أيضاً عن استمرار تلك العلاقة المميزة بالقول: "فوائد الدعم الأميركي (لإسرائيل) لم تعد تفوق التكاليف، وفوائد تلك السياسة هي صفر، والكلفة باهظة، وإلى صعود".

المرشح الرئاسي السابق بيرني ساندرز انتقد السياسة الأميركية حيال "إسرائيل" بشدة، قائلاً في مقال نشرته صحيفة "نيويوك تايمز" إنه "يتعيّن على الولايات المتحدة إنهاء موقفها المدافع عن حكومة نتنياهو" (14 أيار/مايو 2021)، لما يشكله من مؤشر قوي بين قواعد الحزب الديمقراطي، وخصوصاً جناحه الليبرالي، في معارضة السياسة الأميركية الرسمية والمطالبة بمحاسبتها و"فرض قيود على مستويات الدعم العسكري" المقدم لها.