المنطقة نحو الانفراجات.. لماذا غيَّرت واشنطن استراتيجيّتها؟
ربما نشهد تنازلات أميركية أوسع لمصلحة إيران في محاولة إغرائها لإبعادها عن أي اتفاق استراتيجي مع الصين وفي رسالة إلى "إسرائيل" بتخفيف الدعم المفتوح لها.
هكذا، وبكلّ سهولة، وبشكل لم يكن متوقعاً، تدافعت الملفات الأكثر حساسية في المنطقة نحو الحلحلة، أو على الأقل نحو المعالجة. وبعد أن كانت معقّدة وغير قابلة للحلّ، في ظلِّ تشبّث أطراف الاشتباك الأساسي فيها بمواقفهم التي اعتدناها لسنوات، بدأنا اليوم نلمس جدّية متقدّمة نحو إيجاد الحلول، وبدأنا نشهد تسارعاً لافتاً في خطوات التقارب نحو الانفراجات، فهل تكتمل هذه الانفراجات؟ وهل ما زالت "إسرائيل" - الطرف المعروف الذي لطالما أدى دور المعرقل لأيّ تقارب - قادرة على عرقلتها أو أنّها سوف ترضخ، كما رضخت للعودة المرتقبة للأميركيين إلى الاتفاق النوويّ؟
في الأساس، لا يستطيع أيّ متابع إلا أن يعتبر أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة هي الراعي الرئيسيّ لتأجيج عناصر الاشتباك أو النزاع في كلّ ملفات المنطقة. هذا الأمر لا يحتاج إلى جهود كبيرة لتأكيده، إذ إنّ أصابع واشنطن أو أناملها أو أذرعها موجودة، وبقوّة، في كلّ ملفّ خلافي في المنطقة، في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان أو ليبيا.
في المقابل، لا يمكن، وفي حال صدقت التوقّعات والوقائع بإقبال المنطقة على الانفراجات المرتقبة، إلا أن نعتبر أنّ واشنطن هي المحرّك الأساسيّ أو الراعي الرئيسي لهذا التغيير نحو إيجاد الحلول، فهل تتّجه هذه الملفات نحو نهاية سعيدة؟ ولماذا غيّر الأميركيون استراتيجيّتهم فجأة؟
بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى مجموعة من الملفات الّتي بدأت تتحرّك نحو الحلّ، أو الَّتي سلكت الطريق الطّبيعيّ نحوه، والّتي يمكن وضعها تحت العناوين الرئيسيّة التالية:
أولاً: الاتفاق النووي الإيرانيّ. كما يبدو، أصبحت الأمور في خواتيمها. وبين يوم وآخر، تظهر البنود التي يتم الاتفاق عليها بين مجموعة 4 زائد واحد بالأصالة عن كلّ طرف منها في ما يخصّ الاتفاق المذكور، وبالوكالة عن واشنطن في ما يخصّ عودتها إليه وإلغاءها العقوبات عن إيران.
ويبدو أن تل أبيب خسرت إمكانية إحداث أيّ تغيير في موقف واشنطن نحو العودة إلى الاتفاق، وهي الآن تبحث في نقاط التعويض التي ستكون مجموعة من الفوائد المالية والعسكرية - الأمنية المتعلقة بمساهمة واشنطن المفتوحة في تفعيل الدفاع الجوّي والقبّة الحديديّة.
ثانياً: ملفّ العلاقة الإيرانية - السعودية الَّذي تحرَّك نحو التقارب والإيجابيّة والعمل بنيات حسنة من الطرفين. طبعاً، لم تكن السّعودية لتُقدِم أو تتجرّأ على هذه الاندفاعة التي عبَّر عنها الأمير محمد بن سلمان مؤخراً خير تعبير من دون رضا ورعاية أميركية.
ثالثاً: الملفّ السّوري - السعوديّ الَّذي يسابق الوقت، كما يبدو، لتطبيع العلاقات، وفي توقيت مناسب لدعم موقف الرئيس بشار الأسد في الانتخابات المرتقبة. أصبحت عودة سوريا إلى الجامعة العربية بدعم سعودي أمراً مفروغاً منه، كما أنَّ الدور الأميركي في توجيه السعودية نحو ذلك أساسي. وبعد أن كانت الرياض، ولسنوات، رأس السهم في معركة إسقاط الرئيس الأسد، ها هي تختار اليوم توقيت إعادة علاقتها بسوريا الأسد في اللحظة المناسبة لدعم تثبيته.
رابعاً: ملف الحرب على اليمن. ومع ارتباطه غير البسيط بالعلاقة السعودية - الإيرانية، فإن هناك أكثر من مؤشر - وبرعاية أميركية - لإنهائه، ليس أقله في ما يدور الحديث عنه، لناحية العمل على قرار أممي بإلغاء مفاعيل القرار 2216 وإصدار آخر يرعى الأزمة اليمنيّة، بحيث يأخذ بعين الاعتبار أولاً صمود اليمنيين، وثانياً فشل التحالف السّعودي، وثالثاً، وهذا هو الأهمّ، دعم وتأييد عملية سياسية واسعة تحفظ حقوق جميع مكونات الشعب اليمنيّ، إذ يبقى المعيار الأوّل هو وقف الحصار عن الشّعب اليمنيّ، كبادرة حسن نيّة من المجتمع الدولي. ولا شكَّ في أنَّ لإدارة الرئيس بايدن الدّور الأساسي في ذلك.
انطلاقاً من ذلك، لم يعد مستبعداً أبداً القول إن واشنطن غيرت استراتيجيتها في ما خصّ المنطقة بشكل جذريّ أو أنها على الطريق لتغييرها، وذلك بعد أن وصلت إلى خلاصة مفادها أنَّ سياسة مجاراة "إسرائيل" ودعمها على "العمياني"، كما يقال، لم تكن لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية، ولن تكون كذلك، إذ إنَّ أغلب انتكاسات الأخيرة، وخصوصاً في المنطقة، جاءت بسبب دعمها المفتوح لـ"إسرائيل" من دون حساب.
إنّ العلاقة التصادمية بين واشنطن وطهران تاريخياً قد تكون المؤشر الأكثر تعبيراً عن ذلك، إذ بنت واشنطن استراتيجيتها في مواجهة الجمهورية الإسلامية منذ الثمانينيات، وبعد نجاح الثورة في إنهاء حكم الشاه، على تأمين مصلحة "إسرائيل" وأمنها، لتكون أغلب خيبات واشنطن في المنطقة لاحقاً، ونتيجة الاشتباك الإيراني - الأميركي، على يد إيران، وتحديداً في ملفات اليمن وسوريا والعراق ولبنان وغيرها.
والأهمّ في الموضوع الآن، والذي يحدّد أو يوجّه التغيير في استراتيجية واشنطن وبايدن تحديداً، هو الاشتباك القوي والحساس والخطر حالياً ضد الصين وروسيا، الأمر الذي يدفعنا إلى الاستنتاج أن واشنطن لم تعد قادرة أو لم تعد تريد الاستمرار في الاشتباك القوي والعنيف مع إيران، والذي يعد عملياً لمصلحة "إسرائيل" بالكامل، في الوقت نفسه الذي تفتح مواجهة شرسة ضد الصين وروسيا. وكانت "الميادين نت" قد أشارت إلى هذه المقاربة في مقالة سابقة بعنوان "هل تنسحب واشنطن من الاشتباكات الجانبية وتتفرّغ للصين وروسيا؟".
من جهة أخرى، وبعد أن كانت واشنطن تعتبر أن الاشتباك مع إيران يمكن أن يكون جانبياً، وتستطيع استيعابه بالتوازي مع اشتباكات أساسية أو رئيسية مع الطرفين القويين، روسيا والصين، فقد تبيَّن لها، وبما لا يدعو إلى الشكّ أبداً، وبعد مسار عنيف من الضغوط الفاشلة على إيران، أنّ الأخيرة تملك الكثير من عناصر القوة غير السهلة في الجوانب العسكرية والسياسية، وفي النفوذ والاكتفاء الذاتي اقتصادياً، والتي تجعلها منافسة قوية لها، وفي مصاف الدول الكبرى المذكورة (الصين وروسيا)، وأحياناً أكثر، وذلك بسبب قدرة طهران على التأثير إقليمياً بطريقة مباشرة، من خلال قدراتها أو عبر أطراف محور المقاومة.
كلّ ذلك يدفعنا إلى الاستنتاج أن واشنطن على الطريق لتغيير استراتيجيتها، وربما نشهد تنازلات أميركية أوسع لمصلحة إيران، أولاً في محاولة إغرائها لإبعادها عن أي اتفاق استراتيجي مع الصين، الأمر الذي لن تستطيع واشنطن تحمله في ظل الاتفاقية الصينية الإيرانية، وثانياً في رسالة إلى "إسرائيل"، بأنها سوف تخفف دعمها المفتوح لها، والذي لم يكن أبداً لمصلحة الأمن القومي الأميركي في أي وقت.