ما الَّذي كشفته زيارة لويد أوستين إلى تل أبيب؟
بدا واضحاً تركيز الإعلام الإسرائيلي، خلال الزيارة، على مسألة الخلاف الإسرائيلي الأميركي في ما يخص نيّة بايدن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
"تأخرت إدارة بايدن في الاتصال بنا والتواصل معنا. إنه أمر مقلق. تأخروا في إرسال وزير خارجيتهم إلينا. كيف يتواصلون مع إيران من دون استشارتنا؟". هذا بعض ما نقله مقربون إلى نتنياهو عن القلق الذي يساوره بفعل تبدّل السياسة الأميركية والعودة إلى سياسة أوباما.
وبناء عليه، كان لا بد لنتنياهو من أن يقوم بسلسلة عمليات استفزازية وانفرادية في البحر والبر والجو، استمراراً لنهجه الذي كان قائماً في ظل إدارة ترامب، في رسالة واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة بأن "إسرائيل" ستستمر في سياستها السابقة، وأن على بايدن أن يرسل إليه وزير خارجيته قبل الانتخابات الإسرائيلية، لا أن يضع استراتيجية جديدة وحده، لكن بايدن لم يستجب. وبدلاً من وزير الخارجية، أرسل إليه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين، بعد الانتخابات وليس قبلها، مع التأكيد أنه ضيف بيني غانتس، وليس ضيف نتنياهو، وهي رسالة واضحة بأن أميركا هي التي تقرر جدول أعمالها السياسي في الشرق الأوسط، وليس بنيامين نتنياهو.
كما بدا واضحاً تركيز وسائل الإعلام الإسرائيلية، خلال زيارة أوستين، على مسألة الخلاف الإسرائيلي الأميركي في ما يخص نيّة بايدن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، خلافاً للموقف المتشدد الّذي يصرح به بنيامين نتنياهو صباحاً مساء. هذا ما لاحظه المراسلون والمعلّقون الإسرائيليون، ولكن هل هذا هو كل الحقيقة؟
في التوقيت والتقديم للزيارة
كعادته، اختار نتنياهو التوقيت المناسب لهذه الزيارة، فأتت زيارة أوستين في وقت حرج للولايات المتحدة ومناسب جداً لـ"إسرائيل"، وخصوصاً نتنياهو، وذلك بين ذكرى الهولوكوست وعشية ذكرى ما يُسمى بـ"الاستقلال" وما يتخلل هذه الفترة من طقوس ترفع مستوى الحساسية والتكتل العاطفي في النفس اليهودية، فيتردد أي مسؤول أميركي أو غيره بأن يوجه إلى "إسرائيل" انتقادات على ما تمارسه من جرائم أو عمليات تخريب وإرهاب، إذ يرتفع فيها منسوب التظاهر بـ"المَسكنة" وبأنها "ضحية تدافع عن حقها بالحياة"!
ليس هذا فحسب، فقد استغل نتنياهو الفرصة ليضيف إلى التوقيت سلسلة من العمليات الإرهابية في البحر والجو والبر، حملت رسائل قوية إلى إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي على حد سواء، بهدف وضعهما، في ظل التفاوض القائم مع إيران، في حالة حرجة، وهو يدّعي أنها كانت كلها دفاعاً عن النفس ضد من يريد "إبادة إسرائيل".
للوصول إلى ما لم يظهر جلياً في وسائل الإعلام الإسرائيلية، لا بد من أن نتذكر أن نهاية فترة ترامب شهدت قراراً أميركياً بنقل "إسرائيل" إلى القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط بدل قيادة أوروبا، الأمر الذي رأى فيه العديد من المحللين العسكريين والسياسيين تحولاً في مكانة "إسرائيل" في الشرق الأوسط.
بناءً عليه، جاءت زيارة قائد القوات المشتركة للجيوش الأميركية، الجنرال مارك ميلي، إلى "إسرائيل" في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر 2020، وكانت زيارة مطولة استغرقت يومين، اجتمع خلالهما مع قائد الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي، ورئيس المخابرات العسكرية "أمان" الجنرال تمير هايمان، ورئيس وحدة التخطيط الاستراتيجي في "الجيش" الإسرائيلي الجنرال طال كالمان.
وقد وُصفت هذه الاجتماعات بـ"المهنية"، وتبعتها لقاءات أسبوعية عبر تطبيق "زوم" بين كوخافي وميلي، كما تبعتها زيارة قائد الأركان الأميركي ماكنزي في نهاية كانون الثاني/يناير 2021، وهو المسؤول الأميركي الأول الذي زار "إسرائيل" في عهد بادين.
وأجمع المعلّقون العسكريون في "إسرائيل" على أن ذلك الأمر يشير إلى أن "الجيش" الإسرائيلي "سيأخذ دوراً أكبر في الشرق الأوسط، بالتّعاون مع الجيوش العربية التابعة للولايات المتحدة، وبرعاية أميركية مباشرة"، بما في ذلك إدارة بايدن. لقد أشار إلى ذلك بوضوح المراسل العسكري أمير بوحبوط في موقع "واللا" يوم 24 كانون الثاني/يناير 2021.
من هنا، إذا ما تفحّصنا تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستين وتصريحات نتنياهو في المؤتمر الصحافي المشترك، مقارنة بما عمّمته وزارة الأمن في وسائل الإعلام قبل الزيارة وخلالها، نجد تركيز نتنياهو خلال المؤتمر الصحافي المشترك على الرفض المطلق للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، بينما لم يذكر أوستين إيران بأي كلمة، وهو ما فعله أيضاً في المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس. رغم ذلك، لا بد من أن نلحظ المضمون المشترك والتعابير الجديدة في خطابي أوستين ونتنياهو بعد انتهاء اجتماعهما.
في كلمته، قال نتنياهو: "يمكنني القول إنه لا يوجد شريك لإسرائيل أكبر من الولايات المتحدة. وبالتساوي، لا يوجد شريك للولايات المتحدة أكبر من إسرائيل". هنا، تحدث نتنياهو عن "شراكة"، وهو تعبير أوسع وأعمق من "التعاون" و"الصداقة"، كما كان في الماضي، و"ساوى" بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" في هذه الشراكة.
أما أوستين، وإن أهمل تعبير "التساوي"، فإنه لم يهمل تعبير "الشراكة" أيضاً، فقال: "إن العلاقات القريبة والقوية بيننا وبين إسرائيل مهمة لاستقرار المنطقة وأمنها. كلانا متّفق على أنّ علينا العمل سوياً كي نزيد الشراكة الاستراتيجية بين إسرائيل وأميركا. لذلك، بحثنا عن الوسائل المطلوبة لتعميق هذه الشراكة الدفاعية البعيدة المدى وتوسيعها، مقابل التهديدات الإقليمية وتحديات أمنية أخرى".
وأضاف أوستين في السياق نفسه: "أنا أؤكّد دعم وزارتي لجهود التطبيع بين إسرائيل ودول عربية وإسلامية"، ما يعني أن السياسة الأمنية في عهد بايدن لن تلغي ما قدمه ترامب في المجالين العسكري والسياسي، بل ستستمر به، ولكن وفق الاستراتيجية التي ترسمها الولايات المتحدة، وليس "إسرائيل"، بخلاف ما كان عليه الحال في عهد ترامب، وهي تصل إلى مستوى "الشراكة".
ويؤكّد كلام أوستين أن الهدف الحقيقي من هذه الزيارة هو التقدم في مشروع التعاون الاستراتيجي بين "إسرائيل" والولايات المتحدة حتى الشراكة، والبحث في أشكال ومستوى التعاون بين "الجيش" الإسرائيلي والجيوش العربية التابعة لأميركا، بعد نقل "إسرائيل" إلى القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد توقيع الاتفاق العسكري بين أميركا والأردن، والذي يسمح للقوات الأميركية بأن تسرح وتمرح في الأراضي الأردنية. بطبيعة الحال، سيُسمح للقوات العسكرية الإسرائيلية بأن تفعل الأمر ذاته، ولا سيّما أنّها أصبحت تحت إمرة قيادة الجيوش الأميركية في الشرق الأوسط.
هل تحظى سياسة نتنياهو برضا أميركي؟
عند مراجعة التصريحات والمواقف الأميركية، يتضح لكل مراقب موضوعي أن إدارة بايدن ترى أن نتنياهو يحاول تخريب الجهود الأميركية لمنع حرب في الشرق الأوسط، في حين ترى الولايات المتحدة أن صراعها الاستراتيجي في الحقبة القادمة مع الصين وروسيا، وليس مع إيران.
برز بعض هذه المواقف من خلال كشف أميركا عن مسؤولية "إسرائيل" عن مهاجمة السفن الإيرانية في البحر المتوسط، وآخرها في البحر الأحمر، إمعاناً في تخريب الجهود الأميركية للعودة إلى الاتفاق النووي، كما أعلنت أميركا عدم مسؤوليتها عن العملية التخريبية ضد مفاعل "نطنز" أو معرفتها بها، في الوقت الذي يتفاخر نتنياهو بـ"عظمة إسرائيل" وقدراتها العسكرية والتقنية القادرة على القيام بعمليات تخريبية بهذا المستوى، وهو تحدٍّ واضح للسياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط.
لا تعارض إدارة بايدن وحدها سياسة نتنياهو، فالاتحاد الأوروبي لم يوفر نقده للسياسة الإسرائيلية، واعتبر أن "تفجير نطنز محاولة لتخريب المحادثات مع إيران". ليس هذا فحسب، بل هناك أوساط إسرائيلية وازنة ترفض هذه السياسية، وتعتبرها خطراً حقيقياً على "إسرائيل".
في "إسرائيل" أيضاً، ارتفعت الأصوات المنددة بسياسة نتنياهو الاستفزازية والمغامرة، فكتب محرر الموقع الإلكتروني "عنيان مركزي" (قضية مركزية) رامي يتسهار، يوم 11 نيسان/أبريل الجاري، نقلاً عن مصادر أجنبية، أن قائد الأركان ووزير الأمن لم يعلما مسبقاً بما قام به ضباط الموساد في البحر الأحمر وأماكن أخرى، وإنما كانت العمليات بتوجيه مباشر من رئيس الحكومة، وهو أمر خطير في نظر يتسهار. وقال عضو الكنيست أليعازر شطرين من حزب "يوجد مستقبل"، رداً على ما نُشر: "لقد أصبحت الأجهزة الأمنية أداة في يد نتنياهو لمصلحته الشخصية. هذه تراجيديا".
أما الجنرال عاموس يدلين، فقال خلال مقابلة مع راديو "fm103"، نشرتها صحيفة "معاريف" يوم 8 نيسان/أبريل الجاري، أن "نتنياهو يقوم بأعمال خطيرة جداً"، وأضاف: "صحيح أن الاتفاق النووي كان سيئاً لإسرائيل، ولكنه جمّد المشروع النووي الإيراني. وعندما انسحب ترامب من الاتفاق، عادت إيران وتقدمت في مشروعها النووي".
وتساءل: "لماذا نخرج ضد الولايات المتحدة؟ هل لدينا إمكانيات غير التقنية؟ هل تستطيع إسرائيل ذلك استراتيجياً؟ أنا لا أستطيع أن أفسر موقف نتنياهو، لأنه يقوم بأعمال خطيرة. أنا قلق أيضاً من طريقة اتخاذ القرارات، ولا سيما في ظل عدم وجود كابينيت. في الواقع، أدت أعمالنا إلى تسريع المشروع النووي الإيراني بشكل كبير".
هذا التنمّر الإسرائيلي سيستمرّ ما دام لم يردعه رد صادم من إيران على وجه الخصوص، وليس من حلفائها، لأن استمرارية التنمر مبنية على قناعة إسرائيلية بأن الطرف الآخر لا يجرؤ على الرد أو ليس لديه الإمكانيات لذلك. وعليه، لا بد من الاستمرار في هذه العمليات ما دامت تنجح في تحقيق أهدافها. ومن هذه الأهداف، الصدى الذي تحدثه لدى الأنظمة العربية التابعة للولايات المتحدة، والتي تعاني شعوراً بالنقص تجاه "إسرائيل"، وتطلب حمايتها من العدو المشترك، فتسمح بالتغلغل الإسرائيلي في دول الخليج العربية وغيرها.
في المقابل، إنّ الردّ الإيرانيّ برفع تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وزيادة عدد أجهزة التخصيب بـ1000 جهاز جديد من الطراز الحديث من إنتاج الصناعة الإيرانية، إضافةً إلى تصفية خلية الموساد في شمال العراق، وهي الخلية المسؤولة، وفق الفهم الإيراني، عن العمليات الإرهابية داخل إيران، ستثبت كلها للإسرائيليين والأميركيين وغيرهم أن إيران قادرة على الرد بالمثل، وأن سياسة التصعيد التي يتبعها نتنياهو لن تجلب سلاماً واستقراراً للمنطقة، إنما ستزيد من التوتر، وقد تؤدي إلى سباق تسلح نووي لا تريده الدول الكبرى، وهو ليس في مصلحة شعوب الشرق الأوسط، وبالتالي، على الدول الداعمة لـ"إسرائيل" أن تتحمل مسؤولياتها في مواجهة سياسة نتنياهو.