الحريديم: من هم؟ ولماذا يتمرَّدون على قوانين حكومة "كورونا"؟
لماذا يطرد الحريديم الشرطة من أحيائهم بالقوة؟ ولماذا لا تجرؤ الشرطة على فض مسيراتهم الجماهيرية؟ ما هي دوافع سلوكهم التمردي؟ ومن أين لهم هذه القوة السياسية؟
أثار سلوك أبناء الطائفة الحريدية في بلدة بني براك مؤخراً، بخروجهم بالآلاف في جنازة أحد الربانيم الذي توفي بفيروس كورونا، انتقادات واسعة في الصحافة العبرية عامة، والليبرالية منها خاصة، إلى درجة اتهام الحريديم بـ"التمرد" على القانون والإجراءات الحكومية الخاصّة بمواجهة جائحة كورونا، وحتى التسبب في تفشي الفيروس وتحميل المستشفيات ووزارة الصحة أعباء تفوق طاقتها.
كما انتقدت وسائل الإعلام هذه إحجام الشرطة عن التدخل لمنع المسيرة الجنائزية، وهو ما تفعله الشرطة في أماكن أخرى لا تخص الحريديم، وفقاً للإجراءات الحكومية الرسمية. إذاً، لماذا يفعل الحريديم ذلك ويقومون أيضاً بطرد الشرطة من أحيائهم بالقوة؟ ولماذا لا تجرؤ الشرطة على فض مسيراتهم الجماهيرية؟ ما هي دوافع سلوكهم التمردي؟ ومن أين لهم هذه القوة السياسية؟
للإجابة عن كل هذه الأسئلة، لا بد من التعرف إلى الجذور التاريخية للحريديم ومعتقداتهم وسلوكهم السياسي وعلاقتهم بـ"الدولة" الصهيونية وما إلى ذلك.
الحريديم من طائفة دينية إلى حراك سياسيّ
تعود جذور الحراك السياسي للطوائف الحريدية إلى العام 1912 في بولندا، إذ تأسَّست حركة "أغودات يسرائيل" رداً على الحركة الصهيونية الفاعلة بقوة بين يهود أوروبا، وأخذت على عاتقها، خلافاً لبرنامج الحركة الصهيونية آنذاك، "حل المسائل اليهودية بروح التوراة وتعاليمها"، وكان الدافع الرئيس لهذا التنظيم هو اجتذاب الحركة الصهيونية العلمانية للشبيبة اليهودية.
واستطاعت "أغودات يسرائيل" آنذاك أن تجمع بين اليهود الحسيديم والحريديم اللتوانيين على اختلاف تناقضاتهم التاريخية مع اليهود الأرثوذكس الألمان أيضاً، الذين كانوا يعرفون آنذاك بتوجهاتهم المنفتحة على الحياة المحيطة بهم.
مع الوقت، ومع تقدّم المشروع الصهيوني وازدياد ملاحقة اليهود في أوروبا، اقتربت قيادة "أغودات يسرائيل" من المشروع الصهيوني بمفهومه الضيق، وهو إقامة دولة يهودية في فلسطين، أو ما سميت في نظرهم "أرض إسرائيل الموعودة".
وفي العام 1948، وقع الراف ليفين، ممثلاً حركة "أغودات يسرائيل" التي سيطر الحسيديم على رئاستها، على "وثيقة الاستقلال"، وأصبح عضواً في الحكومة المؤقتة لـ"إسرائيل"، لكن، وبعد أن ضمنت "أغودات يسرائيل/ الحريديم" حقوقهم الدينية من الدولة، بالحفاظ على أتونوميا في التعليم، والحفاظ على السبت يوم عطلة رسمي للدولة، وإعفاء المتدينات من الخدمة العسكرية، مع تأجيل خدمة أبنائهم في "الجيش"، إضافة إلى احتفاظهم بالسيطرة في المحاكم الدينية لشؤون العائلة، خرجت "أغودات يسرائيل" من الحكومة في العام 1952، ولم تعد إليها إلا في العام 1977، عندما حصل الانقلاب السياسي واستلم مناحيم بيغن رئاسة الحكومة بديلاً لحزب العمل.
لاحقاً، انقسمت "أغودات يسرائيل" إلى حزبين على خلفية عرقية، وهما "شاس" (حراس التوراة)، ويمثل اليهود الحريديم من أصل شرقي، و"يهدوت هتوراة" (يهودية التوراة)، ويمثل اليهود الحريديم من أصل خَزَري (أشكنازي)، وهو قائمة برلمانية مكوّنة من شقين: الحسيديم واللتوانيون.
قوتهم السياسية
في العقود الأربعة الأخيرة، وبعد أن عاد ممثلو الطوائف الحريدية، على اختلافهم العرقي، إلى الكنيست، استطاع ممثلوهم أن يتحولوا إلى محور مهم في موازين القوى السياسية لتشكيل الحكومات في "إسرائيل"، وإلى مركب أساسي ومؤثر لتشكيل حكومات نتنياهو في مواجهة المعسكر الليبرالي العلماني، الذي يتمثل بحزب ميرتس (منذ شولميت الوني وحتى نيتسان هوروفيتس)، ويش عتيد (يئيرلبيد)، ويسرائيل بيتينو (ليبرمان).
على الرغم من أن اليهود الحريديم، وفق غالبية الدراسات الإسرائيلية، لا يشكلون أكثر من 10% من المواطنين اليهود في "إسرائيل"، فإن نسبتهم في الكنيست تتجاوز ذلك بكثير، وكذلك قوتهم السياسية. ويبلغ عدد ممثليهم في الكنيست اليوم 15 عضواً من أصل 120 أو من أصل 105 أعضاء يهود. وتتوقع مراكز الاستطلاع أن تزداد قوتهم في الانتخابات القادمة، بينما تبلغ نسبة العلمانيين أو من يُعرّفون أنفسهم كذلك بين 25%-30%. وتبلغ نسبة التيار الديني الصهيوني، أصحاب القبعات المحوكة والملونة، ما يقل عن 10%. أما الباقي، فهم من اليهود الصهاينة، التقليديين أو المحافظين، الذين يلتزمون ببعض التعاليم الدينية، وليس كلها.
عن سر قوتهم وتناميها، يقول الباحث في المجتمع الحريدي في معهد "إسرائيل" للديموقراطية، حاييم زيخمان، أن هناك 4 عوامل تؤدي إلى حصول الأحزاب الحريدية على أكثر من حصتهم في المجتمع اليهودي في "إسرائيل":
1) تجنّد الحريديم للتصويت لأحزابهم، وبنسبة عالية مقارنة بالنسبة العامة.
2) التزام الحريديم الذين خرجوا من أحيائهم وانفتحوا على الحياة العامة بالتصويت لأحزابهم.
3) توجّه حزب "شاس" أكثر من "يهدوت هتوراة" إلى فئات شعبية شرقية فقيرة غير حريدية للتصويت للحزب، مقابل خدمات تعليم وخدمات أخرى ذات طابع اقتصادي - اجتماعي.
4) التزايد السكاني المطرد، إذ يبلغ معدل ولادة المرأة الحريدية الواحدة 7 أطفال، وهي من أعلى النسب في العالم.
وينقسم اليهود الحريديم عرقياً، كباقي اليهود، إلى شرقيين (سفراديم ويمنيين) وغربيين (أشكناز أو خزريين). وينقسم الأشكناز وفق انتماءاتهم الطائفية إلى حسيديم ولتوانيين، ثم ينقسمون جميعاً إلى مجموعات صغيرة تتبع كل مجموعة معلمها الديني، "الراف"، وتطيع توجيهاته الدينية والاجتماعية والسياسية، وعلاقاته الاقتصادية أحياناً. وتصل هذه التوجيهات إلى التدخل في تفاصيل الحياة الخاصة، ولا يجرؤ المتدين على معارضة الراف، "كي لا يغضب عليه الله نفسه".
يعتبر اليهود الحريديم أن التوراة دستورهم الملزم، وليست قوانين الدولة، وهم في الأصل، ومن حيث المبدأ، معادون للحركة الصهيونية و"الدولة"، ويرون وفق عقيدتهم أن الله نشرهم أو شرهم في العالم ليكونوا "شعلة للأغيار"، ولكنهم في الوقت الحاضر بحاجة إلى الدولة الصهيونية. وعليه، فإنهم يتعاملون معها بفعل الأمر الواقع.
بين عقيدتهم المناهضة للصهيونية وحاجتهم إلى الدولة
يعيش الحريديم أزمة دائمة مع العلمانيين في "إسرائيل"، إلى درجة أنهم لا يستطيعون التعايش معاً في حكومة واحدة، فالغالبية العظمى منهم لا يعملون إلا في المهن الدينية التي لا تكفي حاجاتهم المعيشية، وهم يعتمدون على تمويل حكومي لمدارسهم المستقلة، وتمويل حكومي لشبابهم الذين يدرسون في الكليات الدينية ولا يخدمون في "الجيش" كباقي اليهود، حتى بلغت تكاليف المدارس الدينية سنوياً 1.43 مليار شاقل في العام 2018، بعد أن كانت 1.13 مليار شاقل في العام 2013.
إضافة إلى ذلك، يعمل الحريديم على الاحتفاظ بوزارة الداخلية ومحاكم شؤون العائلة لفرض شرائعهم الدينية المتزمتة على باقي اليهود من المحافظين والعلمانيين، وفق التعاليم الدينية المتزمتة، مثل منع السفر والعمل أيام السبت، وقوانين شؤون العائلة اليهودية على اختلافها، وتعريف اليهودي، وواجب الخدمة العسكرية.
كل هذه المواضيع وغيرها تشكل محاور صراع محتدم بين الأحزاب الحريدية والعلمانية عند تشكيل كل حكومة. ويجد الحريديم دائماً أن التحالف مع بنيامين نتنياهو هو أفضل الحالات التي تمكّنهم من الاحتفاظ بمبادئهم الدينية، وأفضل الحكومات للحصول على الميزانيات المطلوبة لمدارسهم المستقلة وكلياتهم الدينية، كما يجد نتنياهو أن الحريديم أفضل حلفائه، لأنه يعرف حاجاتهم، وهو مستعد لتلبيتها مقابل تسامحهم معه في كل ما يفعله في السياسة والاقتصاد.
وحين يحتاجون إلى المسكن، لا يترددون في الانتقال إلى المستوطنات في الضفة الغربية، وفق المشاريع الصهيونية الاستيطانية، أو أي مكان آخر، شرط أن يحافظوا على خصوصيتهم الدينية في مستوطناتهم أو أحيائهم المدينية. وهنا تكمن قوتهم السياسية في ظل حكومات نتنياهو.
هناك طوائف صغيرة أخرى بين الحريديم، مثل "نطوري كارتا"، لا تعترف بـ"دولة إسرائيل"، ولا تعير أي اهتمام لقوانينها، وتعادي الصهيونية، بل تعتبرها كارثة على التوراة واليهود، وتشكّل حوالى 5% من اليهود الحريديم (وليس من مجمل اليهود)، وهناك طائفة أخرى تسمى "الجناح الأروشليمي" بين الحريديم، تشكل 6%-7% من الحريديم، وهي من اليهود اللتوانيين الذين يقاومون بالقوة أي محاولة لتجنيد شبابهم في "الجيش". كذلك مجموعة صغيرة تسمى "كرائيم"، تعد أقرب إلى الإسلام في طقوسها الدينية.
لفهم استعداد اليهود الحريديم للسير بالآلاف في جنازة راف الذي توفي متأثراً بفيروس كورونا، لا بد من فهم مدى التزامهم الديني أيضاً، وطاعتهم المطلقة لرؤسائهم الروحيين، وليس شعورهم بقوتهم السياسية فقط. وقد علّق أحدهم على انتقادات الصحافة العلمانية على خروجهم في جنازة الراف، رغم مخاطر كورونا، نقلاً عن الراف المشهور والمتوفى، ميلوبافتش، بقوله: "لتعلم جميع الأمم أن اليهودي يخضع للملوك بجسده فقط، ولا يخضع بروحه. لذلك، علينا أن نعلن على الملأ أن كل ما يتعلق بتعاليم التوراة لا يستطيع أحد أن يأخذه منا".
في هذه الرسالة، يتلخّص الدافع الديني للتمرد على القوانين المدنية والإجراءات الحكومية والخروج الجماهيري في جنازة الراف المتوفى من دون كمامات، على الرغم من مخاطر تفشي فيروس كورونا.