المفاوضات الأميركية – الإيرانية اقتربت... من يتراجع أولاً؟ وهل من مخرج يقبل به الطرفان؟

سياسة الضغوط والعقوبات الأميركية بشكل خاص، والغربية بشكل عام، على إيران، أوصلت الأخيرة إلى مكان مضغوط لم تعد طهران مقتنعة خلاله بالصبر والسكوت أكثر على العدوان الأميركي المتمثل بالعقوبات الجائرة الفاقدة للمبررات القانونية.

  • المفاوضات الأميركية – الإيرانية اقتربت... من يتراجع أولاً؟ وهل من مخرج يقبل به الطرفان؟
    المفاوضات الأميركية – الإيرانية اقتربت... من يتراجع أولاً؟ وهل من مخرج يقبل به الطرفان؟

صحيح أنَّ موضوع "النووي الإيراني" سيطر على مساحة واسعة من الاشتباك الدبلوماسيّ والتفاوض الصعب والحسّاس، وعلى سياسة الضغوط والعقوبات والمواجهة الباردة خلال فترة ليست بسيطة سبقت التوصل إلى الاتفاق حوله في العام 2015 بسنوات، وصحيح أيضاً أن مرحلة حسّاسة ومعقدة من النقاش والاشتباك والمواجهة الأكثر من باردة واكبت المسار الدولي بشكل عام، والإيراني - الأميركي بشكل خاصّ، بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق المذكور في ربيع العام 2018، ولكن قد يكون كلّ ذلك بسيطاً مقارنة مع ما تشهده الساحة الدولية حالياً من حماوة وتسارع في النقاشات والمباحثات والمتابعات حول الاتفاق، لناحية العودة إليه كما هو أو مع تعديلات أساسية أو مع إضافة ملاحق أو بنود خاصة، أو لناحية نسفه من أساسه.

لا يمكن القول إنَّ هذا التسارع اليوم في إعادة طرح الاتفاق في ساحة التفاوض من جديد يرجع سببه فقط إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، أعطت الموضوع أفضلية أولى للمعالجة، كملف أكثر حساسيّة في استراتيجيتها، بل إن الحاجة والضرورة الإقليمية والدولية لمعالجة هذا الملف فرضت نفسها مؤخراً بقوة، بمعزل عن سياسة الإدارة الجديدة، لأن الرئيس السابق دونالد ترامب كان قد وضع أيضاً الملف على نار حامية في النصف الأخير من العام السابق (2020)، واعتبر حينها أنه سيكون من أول الملفات التي سيعالجها إذا أعيد انتخابه. 

إذاً، الحاجة والضرورة الإقليمية والدولية لمعالجة الملف النووي الإيراني فرضت نفسها بقوة لأسباب عدّة، ولم يعد جائزاً إبقاء هذا الملف معلّقاً بانتظار الاستسلام الإيراني أو التراجع الأميركي. هذه الأسباب الضاغطة يمكن تحديد أهمها بالتالي:

أولاً: إن سياسة الضغوط والعقوبات الأميركية بشكل خاص، والغربية بشكل عام، على إيران، أوصلت الأخيرة إلى مكان مضغوط لم تعد طهران مقتنعة خلاله بالصبر والسكوت أكثر على العدوان الأميركي المتمثل بالعقوبات الجائرة الفاقدة للمبررات القانونية أو الشرعية أو للأعراف الدولية، والتي بدأت تطال أمنها القومي بمجمله أكثر من أمنها الاقتصادي.

ثانياً: بدأت الاحتكاكات العسكريّة في منطقة الخليج تتطوّر مؤخراً، إذ فرض الاشتباك الدبلوماسي والسياسي مع إيران توتراً واستنفاراً غير مسبوق في نشر القطع الحربية الغربية في الخليج ومضيق هرمز وخليج عمان وبحر العرب، حيث منطقة الدّفاع الاستراتيجي لإيران، الأمر الذي ظهر وكأنّ المواجهة المحدودة بداية، وأن القابلية لأن تصبح مباشرة وبسرعة مواجهة واسعة واقعة لا محالة، مع ما يحمل ذلك من تداعيات لن تكون بسيطة في خسائرها على جميع الأطراف.

ثالثاً: جاء مسار التّطبيع بين "إسرائيل" وبعض الدول العربية، وما نتج منه من اتفاقيات حول تحضير تحالف عسكري سياسي ضد إيران، وإمكانية وصول "إسرائيل" من خلال هذا المسار إلى سواحل إيران الغربية، وإلى حديقتها الحيوية على مضيق هرمز، وإلى الواجهة الساحلية الشرقية للدول الخليجية العربية، ليزيد الحاجة والضرورة لمقاربة الموضوع بسرعة، وبشكل حاسم، من دون تردد وتأخير.

 هذه الضغوط المذكورة أعلاه، والتي تطال إيران أو تؤثر فيها سلباً أكثر من الأطراف الأخرى، دفعها إلى تحريك الملف عبر مناورة الضغط المتبادل، وبنقطة لطالما كانت حساسة ودقيقة لدى الأطراف الأخرى، وهي الموضوع النووي، من خلال الانسحاب شيئاً فشيئاً من التزاماتها في الاتفاق النووي، وبطريقة متصاعدة بشكل مدروس ربطته بتجاوب الدول الأخرى التي وقّعت الاتفاق، غير الولايات المتحدة الأميركية طبعاً.

من هنا كانت مناورة الضغط الإيراني في زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم من أقل من 5% إلى 20%، أولاً من خلال إضافة مواقع جديدة للتخصيب أو إعادة افتتاح أخرى كانت قد أقفلتها التزاماً بالاتفاق النووي الأساسي معها، وثانياً من خلال زيادة أجهزة الطرد المركزي التي تُستعمل لرفع نسبة التخصيب بأسرع فترة ممكنة، مستعينة بقدرتها الذاتية في تطوير هذه الأجهزة (الطرد المركزي) وصنعها، ما فاجأ الدول الغربية التي كانت قد راهنت على العقوبات لمنع حصول طهران على هذه الأجهزة من مصادر خارجيّة.

المناورة الأخرى التي اعتمدتها إيران بالتوازي مع مناورة الضغط عبر رفع نسبة التخصيب، كانت عبر تنفيذها سلسلة من المناورات العسكرية أظهرت من خلالها قدرات متميّزة. كما أنّها فاجأت الجميع، وخصوصاً الخصوم، في نوعية الأسلحة والصواريخ والمسيرات والقطع البحرية المتطورة، وفي مستوى القيمة العملياتية في ميادين حيوية واستراتيجية خارج مياهها الإقليمية وصلت عبرها إلى عمق المياه الدولية في بحر العرب وخليج عمان وشمال المحيط الهندي.

 هذا الوضع الضاغط الذي خلقته إيران، لناحية السرعة في امتلاك القدرة والإمكانية لتصنيع قنبلة نووية - إذا قررت ذلك – أو خلق وضع محصّن وقوي في أي مواجهة تقليدية ممكنة، باليستية أو بحرية أو برية أو جوية، أو في مواجهة مركبة من كل تلك الأسلحة، ضاعف حاجة الأطراف الآخرين، وعلى رأسهم الأميركيون، لمقاربة الملف النووي بأقصى سرعة ممكنة، مع ما يتفرع عنه، بحسب ما يرمي الأميركيون - دون الإيرانيين طبعاً - وبدعم أوروبي، كما يبدو في ذلك من مفاوضات تتعلّق بالصواريخ الباليستية وبنفوذ إيران في المنطقة عبر محور المقاومة الذي تقوده أو ترعاه.

من هنا، وبعد أن أعلن الأميركيون، عبر وزير الخارجية الجديد بلينكن، استعدادهم للعودة إلى الاتفاق النووي، بما يتضمن عملياً من وقف للعقوبات على إيران، ولكن بشرط إلغاء الأخيرة أولاً جميع إجراءاتها التي تجاوزت فيها بنود الاتفاق بعد خروج الأميركيين منه، ومع إبقائهم الملف مفتوحاً بعد عودتهم إلى الاتفاق حول التفاوض على موضوع صواريخ إيران ونفوذها في المنطقة، تكون نقطة الاشتباك حول الموضوع قد وصلت إلى الإجابات الممكنة عن التساؤلات التالية:

من يتراجع أولاً؟ هل تبادر إيران إلى ذلك، فتلتزم حينها ببنود الاتفاق، وتلغي إجراءاتها الأخيرة التي تجاوزت فيها نسبة التخصيب وأجهزة الطرد المركزي وعدد مواقع التخصيب، لتعود بعدها واشنطن إلى الاتفاق وتلغي العقوبات، أو تعود الأخيرة إلى الاتفاق من خلال إلغاء العقوبات، لتعود إيران وتلتزم ببنوده؟ 

 هل يمكن إيجاد نقطة مشتركة يتفق عليها الطرفان عبر طرف أو أكثر خارجي (أوروبي أو روسي)، بحيث يكون التنازل أو التراجع بالتوازي وتكون العودة إلى الالتزامات بالتوازي أيضاً؟ وهل يمكن اعتبار موافقة إيران على التفاوض مع الدول العربية والخليجية - فقط دون غيرها - بهدف إيجاد آلية مشتركة تحقق الأمن في الخليج والمنطقة مخرجاً غير محرجٍ لطهران، تبحث به مع الدول الخليجية مسألة الصواريخ والنفوذ، بعد وضع كل النقاط التي يتضمّنها أمن المنطقة على الطاولة، ومنها التحالف مع "إسرائيل" ضدها أو الأسلحة المتطورة التي تبحث هذه الدول الخليجية في امتلاكها لمواجهة إيران، كقاذفات "أف 35" للإمارات والطائرات المسيرة الأميركية للسعودية؟ 

وهل يكون قرار إدارة بايدن الأخير تعليق صفقات الأسلحة للإمارات والسعودية أو تجميدها، وبغطاء من الكونغرس، بمثابة طرح أو بند من بنود التفاوض غير المباشر حول أمن المنطقة والصواريخ الإيرانية، وأيضاً، من جهة أخرى، حول تجميد صفقات الأسلحة الخليجية ووقف الحرب على اليمن؟ 

قد تكون الإجابة عن هذه الأسئلة أصبحت أقرب مما كان متوقعاً سابقاً.