مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي.. سليماني ما زال حياً!
دراسةً لافتة صادرة في "إسرائيل" عنوانها الأساس أنّ حرب الشمال المقبلة ستكون مدمِّرة، تؤكد من جديد أن هَدَفَ اغتيال سليماني باء بالفشل وساهم في تطوّر المقاومة إلى حد باتت هزيمتها مستحيلة.
ليس صدفةً أن ينشر مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي دراسةً لافتة، عنوانها الأساس أنّ حرب الشمال المقبلة ستكون مدمِّرة، بالتّزامن تقريباً مع الذكرى السنوية الأولى لاغتيال قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني الشهيد قاسم سليماني، والقيادي في الحشد الشعبي العراقي الشهيد أبو مهدي المهندس. وليس صدفةً أيضاً، أن يتوافق مضمون هذه الدراسة، حول الأخطار التي ستتهدّد "إسرائيل" في أوّل حربٍ مقبلة مع مدرسة الحاج قاسم سليماني التي زرعها في عصب محور المقاومة، بما تتضمّنه من أساليب القتال وتكتيكات المناورة، وسيناريوهات المواجهة، وذلك في الصّراع ضد "إسرائيل".
بدايةً، جاء تقرير المقرّرة الخاصّة للأمم المتحدة المعنيّة بالإعدامات العشوائية والقتل خارج نطاق القانون أنييس كالامار، لينزع الشرعيّة الدوليّة عمّا ادّعته واشنطن بأنّ الاغتيال جاء دفاعاً عن النّفس ضد عمليّاتٍ مخطّطة تستهدف الوحدات الأميركية في العراق والخليج، وذلك حين قالت - وهي المتخصّصة بتقييم عمليات القتل خارج الحروب أو خارج المواجهات ذات الطابع القتالي المضبوط تبعاً للقانون الدولي الإنساني أو قانون الحرب - أنّ اغتيال سليماني كان "عملية قتلٍ تعسفيّة" انتهكت ميثاق الأمم المتحدة، في ظلّ "عدم تقديم أدلّةٍ كافيةٍ على هجومٍ مستمرٍّ أو وشيك".
في الواقع، ومن الناحية العمليّة، لا يمكن لأيّ متابعٍ ميدانيٍّ عسكريّ إلاّ أن يربط مضمون تقرير مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، لناحية سيناريوهات وتكتيكات وطريقة قتال حزب الله في أيّة حربٍ مقبلة ضد "إسرائيل" ، بما قدّمه الشهيد قاسم سليماني لحزب الله، كطرفٍ أساسيٍّ من أطراف محور المقاومة، من خبراتٍ وتقنيّاتٍ قتاليّةٍ وعسكريّة في معركة الأخير بمواجهة العدو الإسرائيلي، وبطريقةٍ أخرى، يمكن القول أنّ مضمون التقرير جاء ليقدّم الكثير لمحور المقاومة، خاصّةً في نقطتين رئيستين وهي:
أوّلاً: تكريم الشهيد سليماني في ذكرى استشهاده، من خلال تذكير الجميع بقيمة الدّور الذي لعبه في الصّراع ضد "إسرائيل" وأهميّته، وبأنّه من المساهمين الأساسيّين في نقل المعركة ضد الصهاينة من مستوى ضعيفٍ ومفكّكٍ لا يملك القدرات المناسبة للمواجهة، إلى مستوى متقدّمٍ جداً في امتلاك القدرات والإمكانيات والأساليب القتاليّة التكتيكيّة أو الاستراتيجيّة، وأيضاً إلى مستوى قادرٍ على ردع العدو، يفرض معادلة توازن رعبٍ بمواجهته، أو بمعنى آخر، إلى مستوى، أصبح محور المقاومة من خلاله، لاعباً مؤثّراً وقوياً، يملك المبادرة ويخلق الفعل، وليس فقط لاعباً ضعيفاً، يتلقّى ما يقرّره العدو، ويتصرّف بردّة فعل.
ثانياً: التصويب على ترامب وعلى نتنياهو بشكلٍ خاص، وعلى الإسرائيليّين والأميركيّين بشكلٍ عام، بأنّ اغتيال سليماني بما يمثّله في محور المقاومة، أو اغتيال أيّ قائدٍ آخر من هذا المحور، لن يغيّر شيئا لناحية تراجع وإصرار هذا المحور في المواجهة الثّابتة ضد "إسرائيل" ككيانٍ غاصبٍ للأرض وللمقدّسات، لا بل العكس، أي اغتيالٍ لأيّ قائدٍ من قادة محور المقاومة، سيضاعف قدرة جميع أطراف هذا المحور وثباتهم وإصرارهم على متابعة المواجهة بشراسةٍ وتركيز، وعلى رفع مستوى هذه المواجهة، استناداً لكلّ ما زرعه القائد الشهيد في عصب هذا المحور.
من هنا، وحيث هَدَفَ الاغتيال بالأساس إلى إطفاء هذه الشّعلة المقاوِمة، كانت نتيجته أنه ساهم في تطوّر محور المقاومة وتماسكه أكثر فأكثر، وأسّس لاستراتيجيّةٍ قويّةٍ متماسكة، من الواضح أن مواجهتها وهزيمتها أصبحتا في غاية الصعوبة لا بل مستحيلة، ولم يتبقَّ لهذه الدول المجرمة - الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" - إلّا أسلوب الاغتيالات لرجال هذا المحور وعلمائه، وتأتي جريمة اغتيال الشهيد العالِم النووي الإيراني محسن فخري زاده في هذا السياق.
وحيث أنّه كان للشهيد دورٌ محوريٌّ في الصراع مع العدو الإسرائيلي، تأتي أبعاد عملية الاغتيال وأهدافها، والتي لم تستهدف قائداً عسكريّاً أو قائد قوة في الحرس الثوري وحسب، بل استهدفت نهجاً مختلفاً وجديداً في تكتيك القتال والعمليات العسكرية الخاصة أو الواسعة، ومنهجيّةً متقدّمةً ومتطوّرةً في استراتيجيّة المواجهة بالقدرات النوعيّة، عبر فرض الرّدع وتوازن الرّعب، وهذه النقاط بالتحديد، والتي ذكرها تقرير مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، يمكن تحديدها بالتالي:
- مُهاجمة "إسرائيل" بعددٍ كبيرٍ من الصواريخ وبطائراتٍ غير مأهولة (مسيّرة دون طيار).
- مجموعاتٌ من مقاتلي "حرب عصابات" حزب الله، ستدخل إلى "إسرائيل" وتحتلّ مستوطناتٍ ومواقعَ حيويّة بالقرب من الحدود مع لبنان والجولان.
- الجبهة الداخلية ستُهَاجَم في الحرب المقبلة بآلاف الصواريخ، بينها عشرات الصواريخ الدّقيقة، وبطائراتٍ مُسيّرةٍ هجوميّة من عدة جبهات بشكلٍ متوازٍ من لبنان، وسوريا، وغرب العراق، مع إمكانيّة انضمام حركتَيْ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من قطاع غزة.
- إيران، زادت من مساحة الاحتكاك بين محور المقاومة و"إسرائيل"، بواسطة بناء القدرات الهجوميّة وانتشار حلفائها بالقرب من الحدود في الجولان وحزب الله في لبنان.
- تعاظم قوة حزب الله، وبشكلٍ خاص في مساعيه للتزوّد بصواريخ دقيقة.
هذا النّهج الذي ساهم الشهيد سليماني في إرسائه، بالاشتراك مع قادة أطراف محور المقاومة طبعاً، أصاب مقتلاً من العدو الإسرائيلي، وذلك في المحطات التالية:
- في عمليات المقاومة ومعركة تحرير لبنان، والتي توِّجت باندحار الصهاينة عنه عام 2000، حيث كان لبصماته الدور الأكبر في بلورة هذه العمليات، مطعّمةً بخبراته التي كان قد اكتسبها خلال مسارٍ طويلٍ من العمليات العسكريّة في الحرب الإيرانية – العراقية.
في عمليات المقاومة الفلسطينية في غزة، حيث كان لما قدَّمه الشهيد لتلك المقاومة على صعيد تكتيك القتال المتقارب وحرب الأنفاق خاصةً والصورايخ القصيرة المدى، دوراً أساسياً في نقل معركتها في مواجهة الصهاينة إلى مستوى متقدّمٍ جداً، تعاني منه اليوم "إسرائيل" الأمَرّين.
في سوريا، كان للشهيد كقائدٍ لفصائل محور المقاومة، دورٌ أساسيٌّ في دعم الدولة والجيش بمواجهة الحرب الإرهابية، والتي كان أهم أهدافها، سلخ سوريا وكطرفٍ أساسيٍّ، من جبهة الصراع ضد العدو الإسرائيلي، هذا العدو الذي ما زال يعيش كابوس ورعب الحاج سليماني بعد استشهاده، ويعيش الخوف من استمرار استراتيجيته ضدها، انطلاقاً من الميدان السوري.
في العراق، دور الحاج الشهيد ضد المجموعات الإرهابية وخاصةً داعش، جاء في إطار المساهمة في صمود العراق وإبعاده عن التفتيت والشرذمة، وأيضاً كهدفٍ إسرائيليٍّ، من خلال إضعاف وتدمير طرف أساسي من أطراف محور المقاومة.
وأخيراً، يمكننا القول عند الإشارة إلى سيرة الشهيد قاسم سليماني، عبارة "ما يمثّله الشهيد"، وليس عبارة "ما كان يمثّله الشهيد"، لأنّ مدرسة الحاج الشهيد ما زالت موجودةً وبقوةٍ في فكر ونظام عمل أطراف محور المقاومة، وهذه المدرسة لا يمكن أن تنتهي باستشهاد رائدها، لأن قوتها تكمن في علمٍ مستمر، تتناقله أجيال هذا المحور وتطوّره يوماً بعد يوم، معركةً بعد معركة، ومواجهةً بعد مواجهة.