إردوغان وبوتين.. المكاسب بين التّكتيك والاستراتيجيّة
بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية، لن يتراجع إردوغان عن أيّ من تكتيكاته في سوريا والقوقاز والبلقان وشرق الأبيض المتوسط، فهو يحشد المزيد من قواته في إدلب وشرق الفرات، كما أرسل سفنه من جديد إلى جوار قبرص.
رغم كلفتها الباهظة، يبدو واضحاً أنّ الرئيس رجب طيب إردوغان حقق خلال السنوات العشر الأخيرة العديد من أهدافه السياسية والعسكرية والنفسية والعقائدية التي تحمل معها الكثير من المكاسب الاقتصادية لتركيا على المدى المتوسط والبعيد. ويفسّر ذلك إصراره على السير قدماً في هذا النهج، رغم كلّ تناقضاته، ليس فقط بسبب المعطيات التركية الداخلية، بل أيضاً بسبب التناقضات الإقليمية والدولية التي نجح، على الأقل حتى الآن، في الاستفادة منها.
عربياً، بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، استغلَّ إردوغان تآمر الأنظمة الخليجيّة وقوى الإسلام السياسيّ، فنجح في سحب البساط من تحت أقدام آل سعود، الذين كانوا طيلة السنوات السبعين الماضية أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في هذا المجال، وذلك بالتنسيق والتعاون مع واشنطن، في إطار ما يسمى بالحزام الأخضر، لتضييق الحصار على الاتحاد السوفياتيّ، عبر دعم المجاهدين الأفغان بأشكالهم ونماذجهم كافة، بمن فيهم طالبان والقاعدة.
وقد نجح إردوغان في استغلال هذا التآمر الخليجيّ لتضييق الحصار على عدوّه الأكبر بشار الأسد، وعلى العدو التاريخيّ التقليديّ إيران، عبر تقديم كلّ أنواع الدعم للمجموعات المسلحة، باعتراف رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم الذي أدى دوراً أساسياً، ومعه أحمد داود أوغلو، في قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية سوريا.
أفريقياً، وصل عدد السّفارات التركية في القارة السوداء إلى 42 سفارة، وتستمر أنقرة في افتتاح المزيد منها، ليصل العدد إلى 50 سفارة، والقول لوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو. وقد زار الرئيس إردوغان خلال السنوات العشر الماضية، وقبله الرئيس عبد الله غول، معظم الدول الأفريقية، إن لم يكن جميعها. وتسعى أنقرة لإقامة علاقات اقتصادية وتجارية وعسكرية وأمنية معها، كما هو الحال في الصومال، وقبلها السودان في عهد عمر البشير.
وتضع أنقرة الدول النفطية والغنية بالأورانيوم والذهب والألماس ضمن أولوياتها في الانفتاح الاستراتيجي عليها، لتنافس بذلك "إسرائيل" والصين، وحتى فرنسا، كما هو الحال في مالي والسنغال وموريتانيا. ولم يهمل إردوغان الجانب العقائدي في هذا الانفتاح، فهو يسعى إلى علاقات مميّزة مع الإسلاميين في الدول الأفريقية، انطلاقاً من علاقاته مع الإسلاميين في تونس والصومال ومصر والمغرب والجزائر. أما في ليبيا الغنية بالنفط والغاز فيقول إردوغان إنّ فيها مليوناً من أصول تركية عثمانيّة، وطرابلس مهمة أيضاً بموقعها الاستراتيجي في الأبيض المتوسط، بكل معادلاته المعقّدة التي يسعى للاستفادة منها في تحدياته مع فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص ومصر.
بلقانياً، يستفيد الرئيس إردوغان من الإرث التاريخي للإمبراطورية العثمانية التي تركت جاليات إسلامية تركية الأصل في العديد من دول البلقان، وأهمها مقدونيا وألبانيا والبوسنة وكوسوفو وبلغاريا واليونان، وهو يقول في أكثر من مناسبة إنه لن يتخلى عنهم، كما لن يتخلى عن شعوب الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، وهي الحديقة الخلفية لروسيا، وقال وزير خارجيتها لافروف قبل أيام: "تركيا ليست حليفاً، بل هي شريك"، ويقصد بذلك أن الشك في مصداقيتها وارد في كل لحظة!
ولم يهمل إردوغان التناقضات العرقية والدينية والمذهبية لبعض دول البلقان التي يعتقد أنه يستطيع أن يستفيد منها في تحدياته السياسية والاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن بعض هذه الدول أعضاء في الاتحاد، بل وحتى الحلف الأطلسي، ومنها بلغاريا ورومانيا وهنغاريا التي تطل على البحر الأسود أو تجاوره.
ويولي إردوغان ذلك أهمية كبيرة في حساباته مع الشريك الروسي، وهو في الوقت نفسه العدو في البلقان والقوقاز وآسيا والوسطى، والأهم من كل ذلك في سوريا وليبيا. ويفسّر ذلك الاهتمام الذي توليه أنقرة لعلاقاتها مع أوكرانيا، العدو اللدود للرئيس بوتين، وخصوصاً بعد أن ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم إليها، وهو ما لا تعترف به أنقرة، وتستمر في دعم الأقلية التركية في القرم.
وتشهد علاقات أنقرة مع كييف تطوراً مثيراً وسريعاً جداً في جميع المجالات، وخصوصاً التكنولوجيا العسكرية في مجال الصواريخ ومحركات الطائرات. كل ذلك في حكم الرئيس الحالي فيلاديمير زالنسكي ذي الديانة اليهودية، التي لم يولها الرئيس إردوغان أي اهتمام، كما في علاقات الرئيس الأذربيجاني عالييف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، فقد رفع المتظاهرون الأعلام التركية والإسرائيلية والأذربيجانية في العديد من الدول (أميركا وأوكرانيا وأذربيجان) عندما خرجوا تعبيراً عن تأييدهم لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا؛ العدو التاريخي والديني لتركيا.
ويرى الرئيس إردوغان في مجمل التحركات التركية الدبلوماسية والعسكرية والاستخباراتية والعقائدية، دينياً ومذهبياً، فرصته التاريخيّة لإحياء ذكريات الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يتحدّث عنه باستمرار. وتحمل هذه الذكريات في طياتها العداء الديني والقومي للغرب عموماً. وأكثر من ذلك، العداء لروسيا التي شهدت علاقاتها مع هذه الإمبراطورية العثمانية 16 حرباً للفترة الممتدة بين العامين 1568-1917، وانتصر الروس في 11 حرباً منها.
وكانت تركيا بعشرات القواعد الأميركية والأطلسية المخفر المتقدّم لحماية الغرب من خطر الاتحاد السوفياتي والشيوعية، ومنع "الدب الروسي من النزول إلى المياه الدافئة"، وهو ما تحقَّق له بعد "الربيع العربي" الَّذي دخلت روسيا بفضله إلى سوريا وليبيا، والسبب في ذلك هو التدخّل التركي في هاتين الدولتين.
وكانت العلاقة بين السّبب والنّتيجة في هذه المعادلة المعقّدة كافية بالنسبة إلى إردوغان، وبالتالي الرئيس بوتين، لوضع العديد من الحسابات المتشابكة والمتضاربة بين الطرفين، ليس في سوريا وليبيا فقط، بل في البلقان وآسيا الوسطى والبحر الأسود والأبيض وقزوين أيضاً. ولكل من الدولتين تواجد مباشر أو غير مباشر فيها، وسيأتي عاجلاً أم آجلاً اليوم الذي سيجد فيه الطرفان نفسيهما وجهاً لوجه لتصفير كلّ التناقضات.
ويعتقد الرئيس إردوغان ويؤمن بأنّ كلّ المعطيات والتناقضات في كل المناطق تأتي لصالح تركيا، ما دامت تملك الكثير من الأوراق في مساومتها مع جميع الأطراف، وخصوصاً أعداءها التقليديين، أي روسيا وإيران، والآن السعودية والإمارات ومصر. ولم تهمل أنقرة فرنسا الَّتي يرى فيها إردوغان وإعلامه العدوّ الأخطر أوروبياً، بسبب مواقف الرئيس ماكرون المؤيدة لليونان وقبرص.
ولا تخفي الكثير من الأوساط الأوروبيَّة قلقها وعدم ارتياحها من مقولات إردوغان وتصرّفاته العقائدية التي تستفز الشعور الديني لدى أكثر من 15 مليون مسلم في أوروبا، 5 ملايين منهم أتراك يعيشون في الدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا، التي يعيش فيها المزيد من مسلمي الجيل الأول والثاني من المغاربة والجزائريين والتونسيين. ويخطط إردوغان لكسبهم جميعاً إلى جانبه، عبر مقولاته الإسلامية التي تستفز الشعور الديني لدى هؤلاء الذين عانوا، ولا يزالون، من المعاملة السيئة التي يعاملون بها في فرنسا التي استعمرت بلادهم لما لا يقل عن 130 عاماً.
ويبقى رهان إردوغان الأكبر على مستقبل علاقاته مع روسيا، التي يعرف الجميع أنها لن ترتاح بعد الآن لسياساته بعد أحداث كاراباخ، مع المعلومات عن نقل المرتزقة المتطرفين من سوريا إلى أذربيجان المجاورة لروسيا، وخصوصاً منطقة الشيشان. ويعتقد الروس أنّ الرئيس إردوغان كان السبب في أزمة كاراباخ، وهو الذي يستغلها ليكون له موطئ قدم جديد في المنطقة، بعد أن نجح في ترسيخ قدميه في سوريا، وبضوء أخضر روسي، في آب/أغسطس 2016.
وقد نجح إردوغان في استغلال هذا الضوء لتحقيق العديد من المكاسب الاستراتيجية على المدى البعيد، بعد أن أجبر الروس على القبول بموقفه في إدلب وشرق الفرات وسوريا عموماً، وكل ذلك بدعم غير معلن من الحليف الاستراتيجي واشنطن.
ويبقى الحسم في مجمل هذه الملفات إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، فإذا فاز فيها ترامب، لن يتردّد الرئيس إردوغان حينها في المزيد من "المغامرات" في العديد من الجبهات ضد روسيا، التي يعرف الجميع أنها في وضع لا تحسد عليه، بسبب الوضع في كاراباخ وروسيا البيضاء وقرغيزيا، وحادث تسمّم المعارض نفالني، واحتمالات التفوق الأميركي والألماني في ليبيا، ونجاح المصالحة بين طالبان والأميركيين.
وفي انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، لن يتراجع إردوغان عن أيّ من تكتيكاته في سوريا والقوقاز والبلقان وشرق الأبيض المتوسط، فهو يحشد المزيد من قواته في إدلب وشرق الفرات، كما أرسل سفنه من جديد إلى جوار قبرص. ويستعد الجيش التركي بدوره لمناورات واسعة في المناطق المتنازع عليها مع اليونان في البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة، رغم التهديدات الألمانية والفرنسية، كما يستعد لمناورات مماثلة في البحر الأسود، رداً على مناورات روسية مصرية متوقعة في البحر المذكور.
ويبقى التكتيك في خدمة استراتيجيات الرئيس إردوغان على جميع الجبهات، ما دامت تناقضات جميع منافسيه وأعدائه ونقاط ضعفهم في خدمته، كما أنّ نقاط الضعف لدى معارضة الداخل تساعده للقيام بكل ما خطَّط ويخطّط له، فهو على وشك أن يتخلَّص من إرث مصطفى كمال أتاتورك الّذي رفع شعار "السّلام في الوطن السّلام في العالم".
وقد حقّق إردوغان الكثير من النجاحات في السنوات الأولى من حكمه بفضل هذه المقولة، فأصبح صديقاً للجميع، وفي مقدمتهم بشار الأسد، ثم نسي أو تناسى هذه المقولة، فحارب الجميع في الخارج والداخل، وأصبح الحاكم المطلق لتركيا التي باتت تعني إردوغان، الذي يبدو أنه مصمم على إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية، وفق مزاجه الشخصي، مهما كلف ذلك تركيا!