حسابات الفاعلين في الميدان الليبي.. الخط الأحمر عند سرت- الجفرة

من خلال متابعة المعطيات الميدانية حالياً، يمكن وضع خارطة مواقف أطراف المواجهة المرتقبة في ليبيا ومواقعها.

  • موالون لحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة يؤمنون منطقة أبو قرين (أ ف ب).
    موالون لحكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة يؤمنون منطقة أبو قرين (أ ف ب).

يبدو أنَّ الميدان الليبي سيكون على موعد قريب مع مواجهة عسكرية تحمل الكثير من الحساسية والخطورة، بما يحضنه هذا الميدان من تضارب مصالح لمروحة واسعة من الأطراف المحليين والإقليميين والدوليين.

وفي حين ستكون هذه المواجهة في الظّاهر بين الأطراف الليبيّين الداخليّين؛ حكومة الوفاق من جهة، وجيش المشير خليفة حفتر من جهة أخرى، فإنّ الأطراف الحقيقيين فيها، من أتراك ومصريين وخليجيين وروس وفرنسيين وإيطاليين، يناورون جميعاً حول استراتيجيّة أساسيّة، تقودها، كالعادة، الولايات المتّحدة الأميركية، ولكن عن بُعد، وعبر أكثر من طرف من هؤلاء الأطراف المرتهنين لسياستها.

من خلال متابعة المعطيات الميدانية حالياً، يمكن وضع خارطة مواقف أطراف المواجهة المرتقبة في ليبيا ومواقعها كالتالي:

تتمركز وحدات جيش المشير خليفة حفتر على خط دفاعي نحو الغرب، بين مدينة سرت الساحلية وقاعدة الجفرة الجوية جنوب سرت بحوالى 200 كلم، كخطّ دفاع أساسي في مواجهة تحشيدات واسعة لوحدات حكومة الوفاق، المدعومة بالآلاف من عناصر الميليشيات المدفوعة والمنقولة جواً وبحراً من سوريا، برعاية وعناية ودعم وتسليح من تركيا.

لقد أصبح، كما يبدو، خطّ سرت - الجفرة خط المواجهة الأساسي، عسكرياً أو سياسياً، وذلك تبعاً لما ستؤول إليه المفاوضات غير المباشرة بين تركيا ومصر كفريقين ظاهرين، إذ تدعم أنقرة حكومة الوفاق لاستعادة السيطرة على مدخل الهلال النفطي شرق سرت، وعلى قاعدة الجفرة، كنقطة عسكرية جوية في وسط البلاد، تمسك بموقعها الاستراتيجي أغلب مفاصل الميدان الليبي، جنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً، بينما تدعم مصر المشير حفتر للثبات على الخط المذكور، وهي تتحضَّر عسكرياً وسياسياً للتدخل والتحرك بفعالية نحو العمق الليبي، بعد أن اعتبرت أن الخط المذكور خط أحمر، وأنَّ تجاوزه شرقاً من قبل الوفاق أو الأتراك عملياً سيشكّل خطراً (بحسب القاهرة) على الأمن القومي المصري والعربي، طبعاً بعد تشكيله خطراً على مفاصل السّلطة والنّفط بشكل كامل في ليبيا.

كما يبدو أيضاً، فإنّ الموقف الروسي عملياً غير واضح حتى الآن. وحيث كانت موسكو، وما زالت، تدعم المشير حفتر - مبدئياً - فإنّ التمدّد الناجح والسّيطرة الكاسحة لوحدات حكومة الوفاق مع الميليشيات المدفوعة والمدعومة تركياً في طرابلس ومحيطها مؤخراً، يُبَدّد صحّة الدعم الروسي لجيش حفتر وجدّيته.

وعلى الرغم من تَشدد موسكو، كما تَشدد المصريين أيضاً، في وجوب عدم تجاوز الوفاق خط سرت - الجفرة، فإن تحشيدات الوفاق والميليشيات الداعمة لها توحي وكأن نهاية المواجهة لن تكون مختلفة عن المواجهة الأخيرة في طرابلس ومحيطها.

وعلى الرغم من سقوط طرابلس ومحيطها بيد الوفاق واندحار جيش حفتر، انتبه الفرنسيون لاحقاً، بعد وصول "الوفاق" إلى تماس قريب من خطّ سرت - الجفرة، إلى أنّ هناك خطراً يستدعي التحرك الدبلوماسي، وربما العسكري أيضاً، وفتحوا معركة شرسة دبلوماسياً وسياسياً في وجه أنقرة.

وفي حين لا يبدو عملياً أن وسط ليبيا ضمن الخط المذكور يعني الكثير للفرنسيين، من الواضح أن عينهم على جنوب ليبيا، حيث مداخل تشاد ومالي، وحيث مصالحهم الجدية في حماية استثماراتهم الدسمة في مناجم اليورانيوم والذهب، تتجاوز موقفهم ونظرتهم إلى كيفية توزيع السلطة والنفط والنفوذ في ليبيا، طبعاً ما عدا كل ما يمكن أن يضعف النفوذ التركي في شمال أفريقيا أو يعرقله. 

في الواقع، وفي مراجعة ومتابعة لمواقف الرئيس رجب طيب إردوغان وتحركاته في سوريا والعراق، واليوم في أذربيجان وأرمينيا، وأيضاً مؤخراً في سواحل بحر عمان، وخصوصاً في اعتداءاته داخل سوريا واحتلاله منطقة جرابلس ومحيطها (عملية درع الفرات)، أو في احتلاله عفرين ومحيطها (عملية "غصن الزيتون")، أو في احتلاله مناطق حدودية في الشرق السوري بين رأس العين وتل أبيض، لا يبدو أنه سوف يتراجع عن دعم حكومة الوفاق للسيطرة على خط سرت - الجفرة، وأسباب ذلك كثيرة منها: 

 - نفوذ الروس في ليبيا أضعف من نفوذهم في سوريا، وهم لم يستطيعوا (أو لم يحاولوا) منعه من احتلال المناطق المذكورة في سوريا. لذلك، سيكون موقفهم أبعد من القدرة على منع إردوغان من السيطرة على خط سرت الجفرة. 

- أيضاً، صحيح أنَّ مصر تعارض بقوة تجاوز الوفاق خطّ سرت - الجفرة، ولكنها عملياً لن تُقدم على الذهاب نحو العمق في المواجهة، لأنَّ ذلك قد يؤدي بها إلى مواجهة مباشرة مع الأتراك، وخصوصاً أنها، وبشكل أكيد، لا تستفيد من دعم أميركيّ، أو على الأقل من موقف أميركي غير معادٍ، إذا لم يكن مسانداً. وموقف واشنطن المتواطئ ضد مصر من الاشتباك الحساس بينها وبين إثيوبيا حول سد النهضة ومياه النيل الوجودية بالنسبة إلى مصر، موقف واضح وضوح الشمس. 

وهكذا، يمكن القول إنَّ احتمال سيطرة حكومة الوفاق الليبيّة، بدعم تركي، على خطّ سرت- الجفرة، هو احتمال وارد وبقوة. وتبقى تفاصيل المناورة، في ما لو حصلت المواجهة، للمتابعة - في إضاءة أخرى لاحقاً - مع تحديد الأهداف الاستراتيجية لواشنطن من دعم تركيا في ليبيا.