التوتّر الأرمنيّ- الأذربيجانيّ.. التوقيت والدلالات
تضع المعطيات تركيا و"إسرائيل" في خندق واحد في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، حيث النشاط اليهودي المكثف في المنطقة، نظراً إلى ما تمتلكه تلّ أبيب من علاقات واسعة مع رجال الأعمال اليهود في أذربيجان وأوزبكستان.
أعتقد أنَّني الصحافي التركي الأول الذي زار إقليم ناغورنو كاراباخ بعد أن سيطر عليه الأرمن في أواسط العام 1992، حيث تعرَّفت إلى قائد القوات الأرمنية، روبرت كوجاريان، الذي أصبح في ما بعد رئيساً لأرمينيا، والتقيت به أيضاً في ياريفان، كما سبق أن التقيت الرئيس الأول ليون بدروسيان، الذي يتحدث العربية بطلاقة، لأنه من مواليد حلب، والتقيت في باكو الرئيس أبو الفضل ألجي بك، الذي يتحدث أيضاً العربية بطلاقة، وبلهجة مصرية، والذي حلَّ محله الرئيس حيدر عالييف، والد الرئيس الحالي إلهام عالييف. وقد التقيت بالأخيرين أيضاً.
أردتُ بهذه المقدّمة التذكير، ولو باختصار، بالصراع الأذربيجاني - الأرمني من أجل إقليم ناغورنو كاراباخ، وهو منطقة تقع داخل حدود أذربيجان، وأغلبية سكانها من الأرمن. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال أرمينيا وأذربيجان، استغلّ الأرمن تلك التطورات، فسيطروا على الإقليم، واحتلّوا 7 أقضية أذربيجانية أخرى في المنطقة.
ومع الإشارة إلى أنَّ عدد سكان أذربيجان (10 ملايين) ثلاثة أضعاف سكان أرمينيا، فقد هزمت الأخيرة أذربيجان، وفشلت لاحقاً في إيجاد حل لهذه المشكلة، وعمرها حوالى 30 عاماً، لم تكن كافية لتحقيق أي تقدم في مجمل التحركات الأوروبية والروسية والأميركية لإنهاء الصراع الذي طُبع بجناحين، أرميني مسيحي وأذربيجاني مسلم.
وترى بعض الأوساط في التوتر الأخير إشارة جديدة إلى طريقة التدخل التركي المباشر في المنطقة، عبر تقديم كل أنواع الدعم العسكري لأذربيجان. ويقوم ضباط أتراك بتدريب جيشها وتسليحه بكل المعدات العسكرية، وبشكل خاص الطائرات المسيَّرة، التي يقوم صهر الرئيس إردوغان بتصنيعها.
وترى الأوساط المذكورة في مثل هذا الاحتمال تحدياً تركياً جديداً لروسيا التي تدعم أرمينيا، وهو ما فعلته أنقرة من خلال تطوير العلاقات العسكرية مع أوكرانيا، "عدوة" موسكو، التي لم يعترف الرئيس إردوغان بقرار ضمّها منطقة القرم إلى روسيا، وهو يدعم القرم باعتبار أن سكانها من أصول تركية.
اكتسبت هذه المعطيات أهمية إضافية نظراً إلى توقيتها الزمني، لأنها جاءت بعد أيام قليلة من المناورات التركية -الأميركية - الرومانية - البلغارية - الجورجية في البحر الأسود، وهو ما اعتبرته موسكو استفزازاً لها، مع استمرار الحديث عن التوتر بين موسكو وأنقرة في سوريا وليبيا.
ويأتي الحديث عن تعاون عسكري - استخباراتي بين أذربيجان وتل أبيب ليزيد من حماس القضية، ما دامت "إسرائيل" لا تكنّ مشاعر إيجابية لموسكو، التي ترى في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى حديقة خلفية لها، وفيها الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، والتي تحظى باهتمام إضافي من تركيا. وقد سبق لرئيسها الراحل تورغوت أوزال أن جمع زعماءها في قمة مهمة في تشرين الأول/أكتوبر 1991 في أنقرة، تحت شعار "أمة تركية واحدة من البحر الأدرياتيكي إلى سد الصين المنيع"، وبنكهة تركية - إسلامية مشتركة.
تضع مثل هذه المعطيات تركيا و"إسرائيل" في خندق واحد في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، حيث النشاط اليهودي المكثف في المنطقة، نظراً إلى ما تمتلكه تلّ أبيب من علاقات واسعة مع رجال الأعمال اليهود في أذربيجان وأوزبكستان، وهم يحملون الجنسيات الإسرائيلية والروسية إضافة إلى جنسياتهم الوطنية، ولهم ثقل سياسي ومالي في موسكو أيضاً، ومن هؤلاء عائلة الزوج السابق لليلى عالييف، ابنة الرئيس الأذربيجاني إلهام عالييف.
وترى بعض الأوساط في المعطيات الحالية بتطوراتها المحتملة، مع المعلومات التي تتحدّث عن تنسيق تركي - أذربيجاني عسكري كبير بعد تصريحات المسؤولين الأتراك "بتلقين الأرمن الدرس الذي يستحقونه"، مؤشراً مهماً على احتمالات التدخل التركي المباشر في المنطقة بعد تدخلاتها في الجغرافيا العربية، وأحياناً في دول البلقان، حيث الأقليات المسلمة ذات الأصل التركي، كما هو الحال في بلغاريا واليونان وألبانيا وكوسوفو والبوسنة.
هذا الاحتمال، إن تحقَّق، سيعكس بكل وضوح صحة وجدية أحاديث الرئيس إردوغان، الذي يؤكد باستمرار "اهتمامه بكل شبر من الأرض التي وَطِئتها أقدام العثمانيين". ويثير ذلك رد فعل كل دول المنطقة وغضبها، بعد أن أثبتت تركيا، بتدخلاتها في سوريا وليبيا والعراق وقطر والصومال وكلّ دول المنطقة، أنها جادة في ذلك، كما أنها جادة في تبنّيها كل الإسلاميين، ليس في المنطقة فحسب، بل في كل أوروبا، والآن في القوقاز، وهي مجاورة لجمهوريات الحكم الذاتي الإسلامية داخل حدود روسيا الفيدرالية، وفيها حوالى 25 مليون مسلم، وأهمها الشيشان، وهم يحظون باهتمام أنقرة، كما تحظى أذربيجان باهتمام تل أبيب، لأنها مجاورة لإيران، العدو الأكبر لـ"إسرائيل"، التي يبدو أنها، ومعها أميركا، لم تكتفِ بعشرات القواعد المنتشرة في جميع الدول المجاورة لإيران، فهي تسعى الآن إلى استغلال تعاونها مع باكو من أجل استفزاز الأذريين داخل إيران وتحريضهم، والذين لا يقل عددهم عن 25 مليوناً، إضافةً إلى المعلومات التي تتحدث عن استفزازات مذهبية بين الأذريين، وحوالى 70% منهم من الشيعة.
وتثبت كلّ هذه المعطيات المعقّدة مدى صعوبة الحسابات بالنسبة إلى كل دول المنطقة أو الدول البعيدة عنها، ولكلّ منها أجندتها الخاصة بشكل مباشر أو غير مباشر، مع انعدام الثقة المتبادلة بين الجميع. وقد يدفع ذلك الدول الغربية عموماً إلى التذكير بقصص التاريخ المرير بين الأرمن والدولة العثمانية، التي يقول الأرمن إنها أبادت حوالى مليون ونصف المليون منهم إبان الحرب العالمية الأولى، وشردت ما تبقى منهم إلى سوريا والعراق وإيران.
يرفض الأتراك هذا الحديث، ويتهمون بريطانيا وفرنسا بتحريض الأرمن للتمرّد على الدولة العثمانية التي كانت تحارب روسيا، وهو ما دفع السّلطات العثمانية إلى تهجيرهم من حيث كانوا يسكنون إلى سوريا والعراق، اللتين كانتا آنذاك ضمن حدود الدولة العثمانية.
ومع اعتراف العديد من دول العالم "بالإبادة العثمانية للأرمن"، لم تفكر أي من هذه الدول في اتخاذ أي إجراء عملي ضد تركيا، خلافاً لما هو عليه الوضع بالنسبة إلى ما قام به هتلر ضد اليهود، الذين يبدو أنهم لا يريدون لأحد أن يشاركهم في احتكار الشعور العاطفي العالمي تجاه "مأساتهم" المبالغ بها.
ويبقى الرهان على التطورات المحتملة في سوريا وليبيا، لما لها من انعكاسات، سلبية كانت أو إيجابية، على حسابات الرئيس إردوغان الإقليمية والدولية، ما دام يعتقد ويؤمن بأن الظروف الإقليمية والدولية لصالحه، وقد تساعده على تحقيق أهدافه في إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية وما بعدها من خلافة، بغياب جدية الموقف العربي واستسلام الأنظمة العربية للأجندات الأميركية.
وكانت هذه الأجندات، وما زالت، وستبقى إلى الأبد في خدمة "إسرائيل"، التي تمتلك أيضاً ذكريات وحسابات تلتقي أحياناً بأهدافها مع الحسابات التركية، وتصطدم معها أحياناً، ما دام إردوغان يتحدث عن عودة العثمانيين إلى المنطقة العربية، فيما يتحدث اليهود عن دولتهم الكبرى من النيل إلى الفرات، وإلى جانبه دجلة، وكلاهما ينبع من الأناضول. وقد جاء الأتراك إليه قبل 849 عاماً، فتعرفوا إلى العرب والفرس والكرد والأرمن والبيزنطيين، الذين جعل الرئيس إردوغان أخيراً من كنيستهم آيا صوفيا جامعاً، في آخر تحدٍ جديد منه لكل دول العالم المسيحي وحلفائه من الأنظمة العربية العميلة.