الأتراك في ليبيا.. باقون ومنها الانطلاق
جاءت زيارة وزير الدفاع خلوصي أكار، ومعه رئيس الأركان يشار جولار، يوم الجمعة 3 تموز/يوليو، لتضع النقاط على الحروف في العلاقات التركية- الليبية.
بعد الزيارة المفاجئة التي قام بها وزيرا الخارجية مولود جاويش أوغلو، والمالية برات البايراك، ومعهما رئيس المخابرات هاكان فيدان، والمتحدث باسم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إبراهيم كالين، إلى طرابلس في 17 حزيران/يونيو الماضي، تحدَّث الإعلام عن الكثير من مجالات التعاون العسكريّ والاستخباراتيّ والماليّ بين حكومة الوفاق وأنقرة، الَّتي بات واضحاً أنها لن تنسحب من ليبيا، مهما كلَّفها ذلك بعد الآن.
وجاءت زيارة قائد القوات البحرية، الأميرال عدنان أوزبال، لتؤكد هذه الحقيقة، إذ تحدثت المعلومات عن مساعي أنقرة لإنشاء قاعدة بحرية قرب مصراتة الليبية، وأخرى قرب ميناء الزاوية، حيث تقع مصافي النفط الرئيسية على بعد 45 كم غرب العاصمة طرابلس.
وجاءت زيارة وزير الدفاع خلوصي أكار، ومعه رئيس الأركان يشار جولار، يوم الجمعة 3 تموز/يوليو، لتضع النقاط على الحروف في العلاقات التركية- الليبية، إذ قال أكار: "سنبقى في ليبيا حتى النهاية، ولن نتخلَّى عن إخوتنا الليبيين، وسنقف إلى جانبهم دائماً".
وقد جاءت أقواله بالتزامن مع المعلومات الصحافية التي تحدثت عن اتفاقيات ثنائية ستقوم بموجبها تركيا بإنشاء قاعدتين جويتين، إحداها في قاعدة الوطية غرب طرابلس، التي سيطرت عليها قوات حكومة الوفاق في 18 أيار/مايو الماضي، والأخرى في قاعدة معيتيقة على بعد 6 كم شرق العاصمة طرابلس، والتي يمنح تاريخها التواجد التركي فيها معاني إضافية، ذلك أنها كانت سابقاً أكبر قاعدة أميركية خارج أميركا، وكانت تعرف باسم ويلس (Wheelus).
والأغرب في ذلك أنها أُقيمت أساساً في العام 1923 من قبل إيطاليا التي كانت تحتلّ ليبيا. وقد استخدمت ألمانيا هذه القاعدة خلال الحرب العالمية الثانية، لتحلّ محلّها القوات الأميركية، فأطلقت عليها اسم "ويلس" بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأنشأت أميركا بعدها في ليبيا 4 قواعد أخرى، أغلقها العقيد القذافي جميعاً في حزيران/يونيو 1970 بعد ثورة الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969. وأسمى القذافي القاعدة باسم معيتيقة، وهو اسم فتاة ليبية صغيرة كانت تسكن قرب القاعدة، وقُتلت خلال التدريبات الأميركية في المنطقة.
وتتحدّث المعلومات عن المزيد من مجالات التعاون العسكري والأمني والاستخباراتي الشامل بين أنقرة وطرابلس، بما في ذلك تزويد قوات حكومة الوفاق بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية، ومنها المدافع الثقيلة والمدرّعات والدبابات والسفن الحربية والغواصات والطائرات المسيّرة. وسيقوم الضباط الأتراك بتدريب عناصر الفصائل المسلَّحة التي تدعم حكومة السراج على جميع أنواع الأسلحة واستخدامها.
ويرى المراقبون في كلِّ هذه المعطيات، مع احتمالات أن يقوم الرئيس إردوغان بزيارة مفاجئة إلى طرابلس، تحدياً تركياً واضحاً لكلّ من يعترض بالكلام فقط على التواجد العسكريّ التركيّ ونقل المقاتلين السوريين إلى ليبيا، وفي مقدمة هؤلاء الرئيس الفرنسي ماكرون، والمسؤولون الروس الذين يتهربون من الحديث بصوت عالٍ، كي لا يزعجوا الرئيس إردوغان، ما دام الرئيس بوتين بحاجة إليه في سوريا، وهو ما كان واضحاً في البيان المشترك للاجتماع الروسي - التركي - الإيراني الأخير.
وترى الأوساط العسكريَّة في علاقة أنقرة مع حكومة الوفاق مشروعاً استراتيجياً يهدف من خلاله إردوغان إلى ترسيخ التواجد التركي السياسي والعسكري، والأهم العقائدي، في الشمال الأفريقي، لتكون ليبيا بوابة الانفتاح على القارة الأفريقية برمتها، وهو الموضوع الذي كان يقع ضمن مباحثات الرئيس إردوغان مع أمير قطر الشيخ تميم، يوم الجمعة الماضي.
وقال إردوغان إنه بحث معه "تفاصيل التنسيق والتعاون الاستراتيجي في سوريا وليبيا والسودان والصومال واليمن"، ومن دون شك ضد الدور الإماراتي والسعودي هناك، وهو ما سيزيد من أهمية التواجد العسكري التركي في ليبيا بعد سوريا والعراق والصومال، وخصوصاً أن ليبيا التي تطلّ على البحر الأبيض المتوسط بحوالى 1800 كم، تمتلك في الوقت نفسه حدوداً برية مباشرة مع مصر وتونس والجزائر والسودان، حيث الاهتمام التركي بالإخوان المسلمين في هذه الدول، ولا تخفي أوساطها السياسية والإعلامية قلقها مع احتمالات التدخل التركي لدعم الشارع الإسلامي وتحريكه فيها.
وسيحقّق ذلك للرئيس إردوغان تفوّقاً سياسياً ومعنوياً، باعتباره "حامي حمى المسلمين" في العالم، وقبل ذلك في المنطقة العربية التي بايعه إسلاميوها بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي"، وشجَّعه ذلك على المزيد من التدخل في سوريا وباقي دول المنطقة، بالتنسيق والتعاون مع كل الفصائل والمجموعات الإسلامية، المعتدلة منها والمتطرفة، ما دامت تلتزم بالتعليمات والتوجيهات التركية التي أثبتت السنوات التسع الأخيرة تأثيرها، وهو ما يعكس التواجد التركي الكبير والمؤثر والفعال، علناً كان أو سراً، في جميع دول المنطقة.
وقد رفع كلّ ذلك معنويات الرئيس إردوغان الَّذي لم تعد العواصم الغربيّة، وأهمها باريس وبرلين وفيينا وأمستردام وبروكسل، تخفي قلقها من تحركات أجهزته في هذه الدول، وفي أوروبا عموماً، حيث يتواجد فيها نحو 5 مليون تركي، يضاف إليهم نحو 10 ملايين مسلم من مختلف الدول العربية، وخصوصاً الجزائر وتونس والمغرب. ويزيد ذلك من أهمية التواجد التركي في ليبيا، وأحاديث الإعلام عن دعم تركي واسع للإسلاميين في الدول المذكورة، ومعظم مواطنيها في أوروبا ذوو ميول إسلامية، ويشكون من "معاملة أوروبية مسيحية سيئة".
ويستغلّ الإعلام التركي هذه المعاملة في الدعاية لحزب العدالة والتنمية وزعيمه إردوغان، بصفته "الزعيم الإسلامي الوحيد الذي يتحدَّث ويتحدى الغرب المسيحي باسمهم، ويدافع عن حقوقهم وحقوق كلّ المسلمين في العالم". ويفسر ذلك إصرار إردوغان على تحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع، في محاولةٍ منه للتذكير بالتاريخ العثماني المجيد بعد فتح القسطنطينية في العام 1453، إذ كانت كنيسة بيزنطينية رئيسية، فجعلها محمد الفاتح جامعاً، لتبقى على هذا الحال حتى العام 1935، عندما قرر مصطفى كمال أتاتورك تحويلها إلى متحف، باعتبارها إرثاً تاريخياً للإنسانية جمعاء.
ويبدو أنَّ الرئيس إردوغان، ومن خلال الحديث بإصرار عن هذا الجامع، إنما يسعى إلى إحياء السلطنة والخلافة العثمانية بكل ذكرياتها، إذ قال في أيلول/سبتمبر 2012 إنه "سيصلي قريباً مع إخوته في سوريا في الجامع الأموي بعد التخلص من الأسد".
وكانت سوريا بوابة السلطان سليم التي دخل منها المنطقة العربية بعد معركة مرج دابق في 24 آب/أغسطس 1516، ليتوجه منها إلى دمشق، فيصلي في الجامع الأموي، ثم في الأقصى الشريف، ويصل إلى القاهرة في 11 كانون الثاني/ديسمبر، حيث أُعلن خليفة للمسلمين.
وكانت ليبيا محطَّة العثمانيين الثالثة، عندما أمر السلطان سليمان القانوني، وهو نجل السّلطان سليم، الجيش العثماني بفتحها، فدخل الجيش العثمانيّ تاجوراء بالقرب من طرابلس على بعد مئات الأمتار من قاعدة معيتيقة التي عاد إليها الأتراك بعد 469 عاماً.
كما عاد الإيطاليون إلى ليبيا بعد مئة عام من استلامهم لها من العثمانيين في العام 1911. واجتمع الجميع بعد ما يُسمى بـ"الربيع العربي" للانتقام من العقيد القذافي، لأنه طردهم جميعاً، فأعادهم الإسلاميّون بمختلف فصائلهم إليها، بدعم من الرئيس إردوغان. وقد اتّهمته المعارضة بالغدر بليبيا التي وقفت إلى جانب تركيا في أصعب محنها، من دون أن يستخلص أحد الدروس من تجارب التاريخ، الذي "لو استُخلصت الدروس منه لما كرر نفسه"، والقول هنا لكاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف.
لقد كان الإسلاميون حجَّة الرئيس إردوغان ومبرّره الرسمي للتدخل العسكري في ليبيا، وقال "إنّ فيها حوالى مليون شخص من بقايا الحكم العثماني، ولا يتكلّم أحد منهم اللغة التركية، خلافاً للتركمان في سوريا والعراق ولبنان، والأقليات المسلمة في اليونان وبلغاريا والبوسنة وباقي دول البلقان، ومعهم المسلمون في مناطق الحكم الذاتي داخل حدود روسيا الفيدرالية الحالية، وعددهم حوالى 25 مليوناً، وهم محاطون بالجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي، وهي أذربيجان وكازاخستان وتركمنستان وقرغيزيا وأوزبكستان.
وتتخوّف الأوساط السياسيّة الروسيّة من أن تكون هذه الأقليات المسلمة على المدى الطويل، كما هو حال مسلمي القرم في أوكرانيا، هدف إردوغان المستقبليّ، إذا حالفه الحظ للبقاء في السلطة 10-15 سنة أخرى. وقد تكون هذه السّنوات كافية لتحقيق كل مشاريعه ومخطّطاته السياسيّة والاستراتيجيّة والعقائديّة، ما دام يعتقد أنَّ الظّروف العربيّة والإقليميّة والدّوليّة لصالحه، وإلا لما تحدَّث إلى الرئيس ترامب مرتين في الأسبوع!