هل طعن العرب تركيا من الخلف؟ ومن باع فلسطين؟
المفاجأة الكبرى أن 94% من الأراضي التي اشتراها اليهود في يافا وحيفا وصفد وطبريا قبل قيام الدولة العبرية، كانت تعود إلى عائلات لبنانية معروفة سبق لها أن تملّكت هذه الأراضي من السلاطين والولاة العثمانيين.
يعود الأتراك بين الحين والآخر إلى حديثهم حول خيانة العرب لهم خلال الحرب العالمية الأولى، والمقصود بذلك ثورة الشريف حسين عام 1916. فقد شنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ووزراؤه، إضافة إلى الإعلام الموالي وغير الموالي له، خلال الأيام الماضية، هجوماً عنيفاً ضدّ جامعة الدول العربية (وكأنها تمثل العرب) على خلفية تنديدها بالتوغل التركي في شرق الفرات، متناسِين أن هذه الجامعة وبتحريض من أنقرة والدوحة والرياض، كانت قد علّقت عضوية سوريا في 12 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2011.
واتفق أغلبية الأتراك على أن العرب طعنوا تركيا من الخلف مجدداً، معيدين إلى الذاكرة عام 1916، وهي قناعة رسختها الدعاية القومية العنصرية التركية طيلة المئة سنة الماضية. وأسهمت الدول الاستعمارية ومعها الصهيونية العالمية في ترسيخ هذه القناعات لدى الشعب التركي الذي يختزن الكثير من المقولات التي تهين العرب وتحقّرهم كعرق وقومية، كما هي الحال لدى العرب ضدّ الأتراك.
لم يخطر في بال أحد من هؤلاء أن الأتراك حكموا المنطقة العربية أكثر من 400 عام شهدت الكثير من الأحداث المثيرة، سواء سلباً أم إيجاباً بالنسبة إلى الطرفين، ولكنها لم تمنع مئات الآلاف من العرب من تلبية دعوة الجهاد التي أطلقها السلطان رشاد في 22 من تشرين الأول/ نوفمبر 1914، حيث قاتلوا واستُشهد معظمهم على جميع الجبهات ولا سيما في معارك الدردنيل (سفر برلك) التي حوّل الأخوان الرحباني ذكراها إلى أعمال فنية غنّتها فيروز، فيما أُجبر آخرون على القتال في صفوف الجيش العثماني الذي حارب مع الألمان خلال الحرب العالمية الأولى.
وحتى لو تجاهلنا كل سلبيات الحكم العثماني، فإن الذين تمرّدوا على الدولة العثمانية قبل العرب وشعوب البلقان والأرمن والكرد، هم الأتراك أنفسهم. فقد شهد التاريخ العثماني حركات تمرد وعصيان تركية ضدّ السلاطين العثمانيين، وشهدت قصورهم أيضاً حكايات الاقتتال الدموية داخل الأسرة الواحدة، فقتل الأخ أخاه والأبن أباه.
وكانت حركة الاتحاد والترقي، التي يعرف الجميع مدى تأثير اليهود والماسونية العالمية فيها، قد قامت بانقلابها على السلطان عبد الحميد في 27 من نيسان/ أبريل 1909، وذلك قبل ثورة الشريف حسين بسبع سنوات.
ونفت الاتحاد والترقي السلطان عبدالحميد إلى سالونيكي (في اليونان) ذات الأغلبية اليهودية آنذاك، بعد أن سلّمه اليهودي امانوئيل كاراسو قرار البرلمان بخلعه من العرش. وكتب التاريخ عن هذه المرحلة بأن اليهود انتقموا من عبدالحميد لأنه رفض استقبال الصهيوني تيودور هرتزل كما رفض بيع أراضي فلسطين لليهود.
واختلفت الدراسات التاريخية حول هذه القصة، فقد تحدّث بعض المؤرخين الأتراك عن صفقات جرت بين عبدالحميد والصهيونية العالمية، وهو بدوره اعترف لليهود بامتيازات واسعة، كما سمح لليهود من مواطني الدولة العثمانية بشراء الأراضي في فلسطين، إلا أنه اضطر في آذار/ مارس 1883 إلى التراجع عن قراره عندما موّلت الصهيونية العالمية هؤلاء، فاشتروا مساحات واسعة من الأراضي، ولم يتوانوا لتحقيق هذه الغاية عن تزوير الوثائق والمستندات، ساعدهم في ذلك موظفو الدولة العثمانية في فلسطين، التي دخلتها سراً مئات العائلات اليهودية من روسيا وأوكرانيا والنمسا ورومانيا.
ومنحت قنصليات هذه الدول وقنصليات فرنسا وألمانيا وبريطانيا الكثير من اليهود جوازات سفرها حتى تتسنّى لهم الإقامة في فلسطين لفترات طويلة. وأسهمت هذه الفترات في زيادة عدد اليهود الذين أسسوا الشركات وأقاموا المستعمرات الاستيطانية بتمويل من الحركات الصهيونية العالمية.
ويظهر الأرشيف العثماني ووثائق الانتداب البريطاني حتى أواسط أربعينيات القرن الماضي أن الفلسطينيين باعوا فقط 250 ألف دونم من أصل 28 مليون دونم، هي مساحة فلسطين الإجمالية. وكان البعض منهم قد اضطر للبيع على إثر العمليات الإرهابية التي استهدفت القرى الفلسطينية وآخرون بسبب الأسعار المغرية التي دفعها اليهود.
استمرت مساعي الصهيونية العالمية في شراء الأراضي أو الاستيلاء عليها حتى قيام الدولة العبرية عام 1947، وساعدهم في ذلك سلطات الانتداب البريطاني التي خصصت أراضي واسعة من ممتلكات السلطان عبدالحميد الشخصية لليهود.
وكانت المفاجأة الكبرى أن 94% من الأراضي التي اشتراها اليهود في يافا وحيفا وصفد وطبريا قبل قيام الدولة العبرية، أنها كانت تعود إلى عائلات لبنانية معروفة سبق لها أن تملّكت هذه الأراضي من السلاطين والولاة العثمانيين مقابل خدماتهم للدولة العثمانية. ومن هذه العائلات سرسق وسلام وتيان وتويني والأسعد وقباني والأحدب والصباغ والخوري وبيهم وسارجي.
وكانت هذه العائلات السبب في تشريد آلاف العائلات الفلسطينية، حيث كانت تسكن الأراضي التي بيعت لليهود بمبالغ خيالية. عائلتا سرسق وتيان باعتا وحدهما فقط نحو 700 ألف دونم من الأراضي لليهود، وهي تعادل ثلاثة أضعاف ما اشتراه اليهود من الفلسطينيين مباشرة، ما أدى إلى تشريد 6420 عائلة فلسطينية.
والأغرب في الموضوع أن هذه العائلات ومعها بعض العائلات السورية كعائلة مارديني والعمري والجزائري والشماع، كانت باعت الأراضي بمبالغ خيالية عبر سماسرة لبنانيين منهم رئيس الوزراء الأسبق خير الدين الأحدب، وميشال سارجي، والياس الحاج، ولاحقاً عمد فلسطينيون إلى قتل بعض هؤلاء السماسرة أو أفراد من عائلاتهم. كل ذلك لم يكن كافياً لسيطرة اليهود على الأرض الفلسطينية حيث بلغت المساحة الإجمالية المسجلة رسمياً باسم اليهود يوم الإعلان عن الدولة العبرية نحو مليوني دونم، بما يعادل 7٪ فقط من مساحة فلسطين.
هذه المعطيات معطوفة على تفاصيل أخرى لم تكن كافية لإقناع الرأي العام التركي والدولي وأحياناً العربي بأن الفلسطينيين لم يبيعوا أرضهم ولم يهربوا من فلسطين، بل إن بعض الزعامات العربية هي التي خانت القضية الفلسطينية وتآمرت عليها قبل وبعد ثورة الشريف حسين، ويرد في التاريخ الكثير من القصص والعبر التي لم يُتعظ بها حتى اليوم.
فمن يتآمر على القضية الفلسطينية ويخونها ويبيعها اليوم لا فرق بينه وبين من خانها في الأمس من العرب والمسلمين، بما فيهم تركيا التي كانت أول دولة إسلامية اعترفت بإسرائيل عام 1949، كما كانت أول دولة إسلامية استقبلت ديفيد بن غوريون عام 1957، ثم تحالفت مع "إسرائيل" ومع الولايات المتحدة والغرب ضدّ كل القضايا العربية، فكان أن صوّتت ضدّ استقلال الجزائر في الأمم المتحدة، ثم لعبت دوراً أساسياً في قرارات الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والأمم المتحدة ضدّ سوريا بعد 2011.
ومن العجائب والغرائب أن يتهم الأتراك اليوم العرب بطعنهم لهم من الخلف، وأن يتحدثوا عن خيانة فلسطين لهم بعدما أيّدت قرار الجامعة العربية الأخير، وكأن تركيا لم تكن سبباً في الخلافات الفلسطينية -الفلسطينية عندما وقفت إلى جانب حماس ثم طلبت منها أن تخرج من دمشق للقتال ضدّ سوريا.
ويعرف الجميع أنه لولا سوريا لما كانت حماس موجودة أساساً، ولولاها لما دخلت تركيا العالم العربي بعد عام 2002 بعد أن استلم حزب العدالة والتنمية السلطة، قبل أن يطعن الرئيس بشار الأسد من الخلف، بخلاف ما يتهّم الأتراك العرب بفعله. وينسى الأتراك أنهم طعنوا وخانوا بعضهم بعضاً، وآخر مثال على ذلك الحرب القائمة بين "الإسلامي" فتح الله غولان وأخيه في الدين رجب طيب إردوغان الذي سعى قبل عام 2011 إلى إزالة بعض القناعات السلبية عن العرب لدى الأتراك، إلا أنه بعد ذلك التاريخ أسهم بسياساته في ترسيخ هذه القناعات لدى الطرفين.
ويسجل التاريخ لكل شعوب العالم، أفراداً وجماعات وقيادات ومسؤولين، تفننهم في الخيانة والغدر. هاتان الآفتان ما زالتا السبب الرئيس لكل ما تعاني منه دول المنطقة وشعوبها العربية والتركية والفارسية والكردية، والتي لم تتفق منذ سايكس- بيكو على الحد الأدنى من القواسم المشتركة التي تمنعها من أن يغدر بعضها ببعض!.