بعد عام على مقتله.. لعنة خاشقجي تُلاحِق الفاعلين
لقد أضعفت عملية القتل المملكة السعودية، وقوَّضت الإصلاحات الطموحة، وأضرَّت بشكلٍ كبيرٍ بالصورة التي حاول محمّد بن سلمان أن يرسمها عن نفسه في المجتمعات الغربية كرجل إصلاحٍ.
في مثل هذا اليوم (2 تشرين الأول/أكتوبر) تحلّ الذِكرى السنوية الأولى لمقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول، من دون أن يُختَم ملف المُحاكمة التي تكتنفها السرية والغموض، ولا سيما مع انتشار الشائعات حول حرية التنقّل والتجوّل للمُتّهم الأول سعود القحطاني المُستشار السابق لوليّ العهد السعوي، وعدم معرفة حال المُتَّهم الثاني أحمد عسيري النائب السابق لرئيس جهاز الاستخبارات.
لم تكن الحادثة مُجرَّد جريمة عادية بل تخطَّت تداعياتها الشأن الداخلي السعودي وتحوَّلت إلى رأي عام دولي. وقد أثَّرت على علاقة السعودية بعددٍ من الدول الغربية إلى جانب تركيا.
وفي أول اعتراف بعد سنة على الجريمة، قال وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان في مُقابلةٍ تلفزيونيةٍ أميركيةٍ بُثَّت يوم الأحد الفائت إنه يتحمَّل "المسؤولية الكامِلة" كقائدٍ في السعودية عن مقتل خاشقجي، نافياً عِلمه أو أمره للمُنفّذين بذلك. ولم يسبق أن أشار بن سلمان، علانية إلى مسؤوليته الشخصية عن الجريمة، كما لم يقم بزيارة الولايات المتحدة أو أوروبا منذ ذلك الحين.
تزامُناً مع الذِكرى، كَتَبَ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مقالاً في "الواشنطن بوست"، واصِفاً الجريمة بأنها "أكثر الحوادث تأثيراً وإثارة للجَدَل في القرن الحادي والعشرين". وكَتَبَ يقول: "ربما كان الأخطر هو الحصانة التي يبدو أن بعض القَتَلة يتمتَّعون بها في المملكة".
وفي ردٍّ شبه مدروس على مقال إردوغان وتوعَّده بمُلاحقة الفاعلين، غرَّد صلاح نجل خاشقجي، على حسابه على "تويتر": "عام مضى على رحيل والدي الغالي سعى خلاله خصوم الوطن وأعداؤه في الشرق والغرب، إلى استغلال قضيّته يرحمه الله للنَيْلِ من وطني وقيادتي". وقد سبق أن كتبت صحيفة "الواشنطن بوست" الأميركية في نيسان/أبريل الماضي أن أبناء خاشقجي تسلّموا منازل في مدينة جدّة بملايين الدولارات كتعويضات، ويتقاضون شهرياً آلاف الدولارات من السلطات السعوديّة لإسكاتهم.
ولا تزال الشكوك تحوم حول الأمير محمّد بن سلمان وتهزّ صورته عالمياً في حين ادّعت الحكومة السعودية أن حملة مُمَنهَجة تُشنّ على الأمير الشاب لحَرْفِ الحقيقة عن مسارها. فما حقيقة هذا الادّعاء؟
بالعودة إلى سيناريو الأحداث، نجد أنه بعد مقتل خاشقجي بيومين، قال وليّ العهد محمّد بن سلمان في مُقابلةٍ صحافيةٍ إن خاشقجي ليس داخل القنصلية، قبل أن تردّ عليه الحكومة التركية في اليوم التالي بأن الصحافي السعودي قُتِلَ داخل القنصلية "على أيدي فريق أُرسِلَ خصيصاً إلى اسطنبول وغادر في اليوم ذاته".
ثم في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، نقلت "الواشنطن بوست" عن مسؤولٍ أميركي قوله إنّ جثمان خاشقجي "تمّ تقطيعه على الأرجح ووضِعَ في صناديق وغادر البلاد".
وتحت الضغوط الأميركية أقرَّت الرياض في 20 تشرين الأول/أكتوبر، بمقتل خاشقجي لكنّها قالت إنّ ذلك حدث بعد اندلاع "شجار".
وقد حامت الشكوك حول تورّط الأمير محمّد بن سلمان شخصياً في الجريمة، حيث نقلت "الواشنطن بوست" عن مصادر لم تحدّدها في 16 تشرين الثاني/نوفمبر قولها إنّ وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي أيه" خلصت إلى أنّ وليّ العهد قد يكون مُتورِّطاً في مؤامرة قتل خاشقجي، لكنّ ترامب قال: إنّ استنتاجات الوكالة "غير حاسِمة".
وفي 13 كانون الأول/ديسمبر، تبنَّى مجلس الشيوخ الأميركي قراراً يُحمّله المسؤولية. كما شرعت الأمم المتحدة بدعم تحقيقٍ مستقلٍ أجرته أنييس كالامار خبيرة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة حيث خلصت في تقريرها المنشور في 19 حزيران/يونيو إلى وجود "أدلَّة موثوقة" تربط وليّ العهد السعودي بقتل خاشقجي ومحاولة التستّر عليه. وأوصت بإجراء تحقيقٍ جنائي دوليّ وفَرْض عقوبات مالية. كما قالت إنّ محاكمة المشتبه بهم في الرياض لا تفي بالمعايير الدولية ويجب وقفها.
لقد أضعفت عملية القتل المملكة السعودية، وقوَّضت الإصلاحات الطموحة، وأضرَّت بشكلٍ كبيرٍ بالصورة التي حاول محمّد بن سلمان أن يرسمها عن نفسه في المجتمعات الغربية كرجل إصلاحٍ عازِم وطامِح ومُنفَتح. وقد سبق أن حظيَ بتقديرٍ من كبار رجال الأعمال والقادة الدوليين بسبب الإصلاحات الجريئة التي دعا إليها.
وأخاف مقتل خاشقجي المُستثمرين الأجانب الذين امتنعوا عن الاستثمار في السعودية. وعزفت غالبيّة الشركات الغربية عن التعامُل معها حتى بحضور مصرفيين ومدراء دوليين في المؤتمرات الاستثمارية. ومن ثم أرجأت الدولة إلى أجلٍ غير مُسمَّى طرح شركه أرامكو للاكتتاب العام الذي كان مُقرَّراً عام 2018.
وجاءت ردود فعل السعودية حول الأزمة مُضطَرِبة وغير مُتّزِنة، وفيها شيء من التحدّي غير المدروس للعالم الغربي، فاتّجه بن سلمان للانفتاح نحو الشرق محاولاً عَقْد تحالفات مع الدول التي لم تمارس ضغطاً عليه في جريمة القتل مثل: الهند والصين وروسيا، لكن الخطوة كانت قفزة في فراغ، وارتدَّت سلباً على بن سلمان الذي عاوَد مُغازَلة الأميركيين من جديد رغم الإهانات المُتكرِّرة لبلاده، ولم يجد حيلة لاحتواء الإصرار التركي على متابعة الملف سوى مزيد من توجيه الإعلام المُسانِد له على النَيْلِ من إردوغان وتركيا ، في حين كان أعجز من ممارسة اللعبة نفسها مع حلفائه الغربيين لأسبابٍ معلومةٍ للجميع.
ورغم الصورة المُتضرِّرة خارجياً لمحمّد بن سلمان إلاّ أن صورته الداخلية لم تُصَب بأذى على الأرجح، فالرجل أحكمَ قبضته على المؤسّسات الأمنية والعسكرية، وشنّ حمله اعتقالات تستهدف ناشطين وناشطات مُعارضين لسياساته، وحاول التأثير على الرأي العام الغربي، كما يقول دي بيومودان الخبير في شؤون السعودية في معهد البحوث للدراسات الأوروبية والأميركية حيث "وظّفت السعودية مؤثّرين غربيين على وسائل التواصُل الاجتماعي للترويج للمملكة وتحسين صورتها منذ مقتل خاشقجي".
اعتراف بن سلمان بتحمّل جزء من المسؤولية عن مقتل خاشقجي بعد سنة من الحادثة يُشير إلى العبء الذي ينوء تحته، وليس أقلّه تجنّب زيارته الدول الغربية منذ الجريمة. وإذا كانت بعض الدول الكبرى في الشرق تجنَّبت إحراجه، أملاً في استثمار سوء علاقاته مع الغربيين، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين وجدوها مناسبة لممارسة المزيد من الضغوط على بن سلمان في ملفات لا تزال تشكِّل إحراجاً مُتزايداً لهم مثل: الأوضاع في اليمن، وملف حقوق الإنسان، ودعم بعض الحركات المُتشدِّدة. في حين راهنت تركيا باكِراً، ولا تزال تُراهِن على تدمير صورة محمّد بن سلمان الذي أظهر عداء مُبكراً للنفوذ التركي في المنطقة.
فهل سيتخلَّص بن سلمان من هذا الكابوس يوماً؟.