عملية "نصر من الله".. رسائل القوة وسقوط الأوهام

القيادة الإيرانية لا تتراجع البتّة أمام هول الضغوط العسكرية والسياسية والإقتصادية، وهي عبر مواقف محمد جواد ظريف تنسج موقفاً سياسياً يجمع مجموعة تكتيكات مختلفة تخدم هدفاً واحداً هو حماية السيادة والتعبير عن الاستقلالية في الموقف الإيراني.

لم تشكّل تطوّرات الميدان اليمني في اليومين الأخيرين صفعة للسعودية فحسب، بل إنها أتت بحجمها ونوعها هائلة بدلالاتها الاستراتيجية قبل انعكاساتها العسكرية والسياسية الآنية.

عملية "نصرٌ من الله" التي نفَّذها "أنصار الله" في محور نجران صعقت بوقعها القوات السعودية ومن خلفهم حلفائهم الأميركيين، الذين راهنوا على ادّعاءات قيادة المملكة بقُدرتهم على حسم المعارك بتركيع اليمنيين، وإرسال رسالة قوَّة لإيران في الوقت الذي تحاصرها فيه العقوبات الأميركية. فجاءت قُدرات اليمنيين لتثبت في الميدان فشل الأوهام العسكرية التي تستند إلى التعزيزات العسكرية الأجنبية في المنطقة.

هذه الأوهام هي نفسها التي فنَّدها وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف حين اتّهم الرياض بـ"إثارة التوتّر لتمهيد الطريق أمام الأجانب للقدوم إلى المنطقة"، في إشارة إلى التعزيزات العسكرية الأميركية الأخيرة في الخليج.

لكن إشارته الأكثر أهمية كانت موجَّهة للسعودية نفسها حين دعاها لـ"التسليم بأن الأمن لا يُشترى"، موضحاً أن إنهاء الحرب في اليمن "سيؤدّي إلى خفض منسوب التوتّر الإقليمي". 

التأكيد الإيراني أن "الحل الواضح جداً" الذي سينهي التوتّر في المنطقة و"يوقِف تدهور سِمعة السعودية أكثر مما حصل حتى الآن" يستبطن رغبة إيرانية بتهدئة مع الجيران الخليجيين، وخصوصاً السعودية، بعد تسليمها بحق الشعب اليمني بتقرير مصيره، ورفع يد السيطرة التي تحاول تطويع اليمن منذ سنوات. 

لكن اللافِت جداً في هذا السياق هو أن طهران ترسل رسائل حوار لجيرانها في الوقت الذي تعلو فيه يدها على يدهم من ناحية الإمساك بزمام السيطرة الميدانية في المنطقة. وأبعد من ذلك، فإن الدعوة الإيرانية للسعودية بأن تتعقَّل وتوقِف حرب اليمن، توازيها وقفة إيرانية شديدة الشجاعة في مواجهة الولايات المتحدة التي تقف خلف السعودية، والتي تعتبر اليوم رأس العالم الأكثر قوّة.

وحين قال ظريف عن السعوديين إنهم "يتصوَّرون أنه مثلما اشتروا كل شيء حتى الآن بالمال كالسلاح والصداقة والدعم، بإمكانهم كذلك شراء الأمن بالمال"، داعياً إياهم لـ"وضع هذا الوَهْم جانباً"، كان يُدلّل على نموذج من الإدارة السياسية في إيران مختلف كلياً عن كل خصوم الولايات المتحدة الآخرين.

فالقيادة الإيرانية لا تتراجع البتّة أمام هول الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهي بهذا القول الذي أعلنه ظريف تنسج موقفاً سياسياً يجمع مجموعة تكتيكات مختلفة تخدم هدفاً واحداً هو حماية السيادة والتعبير عن الاستقلالية في الموقف الإيراني.

أول هذه التكتيكات رسالة شجاعة بوجه الراعي الأكبر لنشاط السعودية أي الولايات المتحدة. وثانيها رسالة قوّة وإيقاظ من الوَهْم للسعودية. وثالثها النقطة التي انطلقنا منها والتي يمكن وصفها بتحذيرٍ ممزوج بمد يد للسعودية إذا أرادت العودة عن جموحها في اليمن.

هذا النموذج الفريد الذي يظهر مع كل محطّة وحدث هو تحديداً ما يجعل الولايات المتحدة تحترم إيران، وتحسب لها حساباً دقيقاً حتى في أوج ضغوطها عليها. ذلك أن المُقارعة الإيرانية لأميركا وحلفائها في المنطقة لا بدّ من أنها انعكاس ليس للعقيدة السياسية والثقافية التي يعتنقها النظام السياسي الإيراني فحسب، بل إن ذلك لا بد من أنه ناجمٌ عن قُدراتٍ حقيقيةٍ تمتلكها طهران، قادرة على حماية مصالحها وعدم القبول بفرض أية توجيهات لا تحقّق مصالحها، حتى لو كانت من رأس العالم، وممَن يُحرّك هذه الرأس، حتى لو كان نموذجاً فظّاً كدونالد ترامب.

لكن هذه المُعطيات، وتحليل مكوّنات الموقف لدى كل طرف انطلاقاً من تحليل الأداء السياسي له لا يُبشّر بقُرب انفراج أيٍ من ملفات التوتّر العديدة بين طهران وواشنطن، وتالياً بين طهران والرياض. فالتجربة تقول إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تقبل كَسْر هيبتها مراراً ومن قِبَل الطرف نفسه، لأن ذلك سوف يُشجّع دولاً أخرى على انتهاج النَسَق نفسه في التعاطي مع واشنطن.

وبالمقابل، فإن النموذج القيادي الإيراني المستقلّ لا يمكن من جانبه أن يقبل بالذهاب إلى المفاوضات تحت سيوف العقوبات والحشود العسكرية و"البلطَجة" السياسية.

هو إذاً صراع إرادات مستمر بين قوّة إقليمية تنطلق من أرضها وتاريخها، وبين قوى عالمية عُظمى غير قادرة على فَهْمِ الآخرين أو القبول باستقلاليّتهم، من إيران إلى روسيا والصين.