ما هي دلالات فرار أميركا؟

بينما تتملّص دول "الناتو" من فشلها في أفغانستان، يُعلّق بايدن هروبه على مشجب أشرف غني، لكن تخبّط أميركا في المستنقع الأفغاني فرض عليها الخيار بين الطاعون والكوليرا.

  • تعلّمت
    تعلّمت "طالبان" درس التبعية لأميركا، حين قلب البيت الأبيض ظهر المِجن بذريعة الحرب على الإرهاب.

ليس غريباً تقديم بايدن وإدارته حكومة أشرف غني كبش محرقَة، فالأتباع الذين تعلفهم أميركا لتغطية الغزو وتدمير الدول والمجتمعات، مُعدّون لتنظيف وجه أميركا وأيديها الملطّخة بالدماء أثناء الغزو وأثناء إعلان فشله.

هي عادة استعمارية قديمة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ورثتها الولايات المتحدة للتخفّف من هزائم دول الموز والديكتاتوريات العسكرية، ثم من هزائمها في فيتنام، وفي تشيلي - بينوشيه، وفي إيران - الشاه... وتنبؤ بعد أفغانستان أنَّ الحبل على الجرار في منطقتنا والعالم.

انهيار استراتيجية حروب الاستتباع

لم تكن مهمة أميركا بناء الدولة في أفغانستان، كما يعترف بايدن، إنما لم تكن مهمتها أيضاً ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، كما يقول، فاستراتيجيتها في غزو العراق وأفغانستان أسهب في إعلانها بوش الابن ورامسفيلد وفولفيتش ورايس... وملخّصها المراهنة على حروب الاستتباع، أملاً بالهيمنة الأميركية في "نظام عالمي جديد".

في إطار هذه الاستراتيجية التي التزم بها أوباما، ثم ترامب، بشكل الحروب الاقتصادية والعقوبات، يكتشف بايدن انهيارها في أفغانستان مؤشراً على تلاشيها في سوريا والعراق، وأن بقاء الاحتلال 20 سنة أخرى لن يغيّر شيئاً يُذكر، بحسب تعبير أنتوني بلينكن.

الفرار الأميركيّ - الغربيّ خبط شعواء يدلّ على أنّ استراتيجية السياسة الخارجية الأميركية لحماية الأمن القومي في الهيمنة العالمية أصبحت ذكرى عالم مضى وانقضى في القرن الماضي، وهو ما تشير إليه "فورين أفيرز" الأميركية.

 بايدن يحلم في استراتيجيّته المؤقتة "لقيادة العالم"، العودة إلى ما رسمه بريجنسكي وهنري كيسنجر بعد جون فوستر دالاس، وقبل المحافظين الجدد ومجموعة بومبيو ــ جاريد كوشنر، أملاً بما أسماه قيادة أميركا "للحلفاء والشركاء" من أجل قرن أميركي آخر.

لكنَّ هروب هؤلاء الحلفاء في "الناتو" والشركاء في السعودية من كابول، يؤشر إلى مأزق التبعية للقيادة الأميركية في مرحلة انحدارها، فباكستان التي اعتمدت عليها أميركا مع السعودية و"طالبان" للسيطرة على أفغانستان ضد روسيا والصين وإيران، قفز بها عمران خان من مركب بحر العواصف قبيل غرقه في كابول.

خلافاً لشراكة السعودية في التبعيّة لأميركا، رفض عمران خان السماح لأميركا باستخدام الأراضي الباكستانية، ما أدّى إلى إحباط المراهنة الأميركية على انسحاب منظّم إلى الجوار الأفغاني. وقد صرّح عمران خان في البرلمان الباكستاني أنَّ بلاده خسرت 70 ألف باكستاني في حرب أميركا الحمقاء، كما وصفها.

بدورها، تعلّمت "طالبان" درس التبعية لأميركا، حين قلب البيت الأبيض ظهر المِجن بذريعة الحرب على الإرهاب، على الرغم من أن "طالبان" حملت أميركا على ظهرها بالشراكة مع السعودية وباكستان إلى آسيا الوسطى في المواجهة الاستراتيجية ضد إيران وروسيا والصين.

يتبدّى درس "طالبان" في مشهد محافظة إيران وروسيا والصين على بعثاتها الدبلوماسية، مقابل مشهد هروب بعثات السعودية وأميركا و"الناتو" على قول المثل الشعبي "الذي يحمل تحت إبطه مسلّة، تنعره".

صفعة قاصمة لخرافة الديمقراطية الأميركية

لا تتوافق الوصفة الأميركية في تزوير الديمقراطية مع الأوضاع الأفغانية التي خرّب توازنات استقرارها الاستعمار البريطاني الطويل؛ ففي بلد على ملتقى الحضارات التاريخية المتلاقحة، حيث تتداخل أكثر من 14 إثنية عرقية ولغة، لا يسهل على نموذج الديمقراطية الأميركية تفتيتها إلى "مكوّنات" منفصلة أو مجمّعة في "كيانات" موكلة بإدارة التبعية.

هي الوصفة السياسية الَّتي تروّجها الديمقراطية الأميركية بذريعة حفظ الاستقرار السياسي، لكنَّها تستهدف شراء خضوع "الكيانات" لسياسات "المجتمع الدولي" التي تتحكّم فيها أميركا للسيطرة الجيوسياسية، مقابل حظوتها بفتات المكانة وفساد السلطة، وهي الوصفة الاقتصادية - الاجتماعية للديمقراطية الأميركية، حيث تخضع الدول والمجتمعات للنموذج النيوليبرالي في قوانين نهب الثروات الوطنية، عبر فتح الأسواق أمام الشركات المتعددة الجنسية وغزو السوق الدولية.

استعصت أفغانستان على تزوير الديمقراطية، بابتسارها في مقولة حقوق الإنسان و"المجتمع المدني"، فالغالبية الساحقة تعيش في الأرياف من الزراعة والرعي (68% من السكّان). ولا يتجاوز عدد القابلين لغسل الأدمغة بأوهام استهلاك الرفاهية الأميركية أكثر من 9% من أصل سكان الحضر البالغ عددهم 22%، بحسب دائرة المعارف البريطانية في العام 2014.

أمام هذه الوقائع، سعت الوصفة الأميركية إلى جذب أمراء الحرب من جهة، وإلى التأثير بغسل أدمغة 3 إلى 5 ملايين أفغاني بما يسمى "القيَم" الديمقراطية من جهة ثانية، وهم جلّهم في العاصمة كابول وفي جلال أباد، من أصل عدد السكّان البالغ عددهم حوالى 30 مليوناً، وفق استطلاعات مكتبة الكونغرس في العام 2017.

هم في غالبيتهم من تجّار السوق الدولية وكبار الموظفين وخريجي الجامعات الغربية وتلامذتهم، فضلاً عن حوالى 350 - 450 ألفاً من المتعاونين والمتعاملين وشباب ونساء المنظمات غير الحكومية، بكلفة إجمالية بلغت ألف مليار دولار، منها 850 مليون دولار باسم تمكين المرأة.

هذا الحصاد الهزيل غير قابل لنجاح الديمقراطية الأميركية التي تبشّر بحقوق الإنسان والحريات الشخصية والتعبير والمرأة... مقابل القضاء على الحقوق الوطنية وحقوق المشاركة السياسية والثقافية في قرار الحرية والتحرّر، إضافة إلى الحقوق الإنسانية في العمل والتعليم والمأوى والطبابة والرعاية...

النموذج الأميركي الَّذي يعتمد الحريات الشخصية لنسف الحقوق والحريات المجتمعية، يستخدم "حقوق الإنسان" حصان طروادة لجذب فئات "حداثية" محدودة تغطي سرقة الحقوق المجتمعية للأغلبية الساحقة (في أفغانستان أكثر من 85% من الشعب)، وتغطي القضاء على الدول لمصلحة حرية السوق (اليد الخفية التي تنظّم المجتمع أفضل من الدولة).

مكاسب الفئات "الحداثية" القليلة في تبنّيها "القيَم" الأميركية - الغربية، لا تغطي جرائم حروب أميركا والحلفاء والشركاء في دعم "طالبان" والقاعدة للسيطرة على أفغانستان، ولا تغطي مجازرهم طيلة 20 سنة في تدمير أفغانستان من أجل الاستتباع بذريعة مكافحة الإرهاب (راجع على سبيل المثال تحقيقات الصحافي الأميركي جيرمي سكاهيل المنشورة والموثّقة بعنوان الحروب القذرة).

 تخلّص أفغانستان من الغزو والاحتلال الأميركي، يضعها أمام تحديات مصيرية لا تعدّ "طالبان" مؤهلة لمواجهتها:

1 - إزالة آثار الاحتلال البريطانيّ الّذي لغّم أفغانستان بصراعات عرقية وإثنية مميتة لا تزال تمدّ "طالبان" بالعصبية والنفوذ، فقد خلق "بلاد البشتون" من باكستان إلى أفغانستان على "خط دوراند"، من أجل احتراب قبلي دائم لحماية الاحتلال في سياسة "فرّق تسد".

2 - إزالة آثار عصابات بدو البشتون المسماة "كوشيين"، والتي اعتمدت عليها "طالبان" في الصراع القبلي مع الأوزبك والطاجيك (خمس السكان) الذين يتكلمون اللغة الفارسية، واعتمدت عليها أثناء حكمها في ارتكاب المجازر ضد الهزارة والاستيلاء على أراضيها الأكثر خصوبة في أفغانستان، ولا سيما في المناطق الوسطى والشمالية من كابول.

3 - إزالة آثار الاحتلال الأميركي في تغيير تحالفات "طالبان" السابقة، لتوطيد علاقات التعاون مع دول الجوار في آسيا الوسطى وإيران وروسيا والصين نحو إعادة الإعمار على أنقاض الدمار والخراب وتسخير الثروات الطبيعية الأفغانية الهائلة لمصلحة سكان الأرياف وأحياء المدن الفقيرة.

تُطلق طالبان وعوداً "معتدلة" في كل اتجاه، نحو القوى الداخلية ودول الجوار و"المجتمع الدولي"، لكن دول الغزو والاحتلال التي تهرب من الشباك قد تدخل من الباب بالمصالحة مع "طالبان" التي "انتصرت في الحرب"، بحسب الاتحاد الأوروبي، فأميركا تمسك بخناقها عبر احتجاز 9,4 مليار دولار، وتلوّح لها باعتراف "المجتمع الدولي"، لكن فرار أميركا يطوي صفحة ويفتح أخرى، وفي سطرها الأول سقوط الاستراتيجية الأميركية.

مع بدء الولايات المتحدة تطبيق خطة الانسحاب من أفغانستان، بدأت حركة "طالبان" تسيطر على كل المناطق الأفغانية، وتوجت ذلك بدخولها العاصمة كابول، واستقالة الرئيس أشرف غني ومغادرته البلاد. هذه الأحداث يتوقع أن يكون لها تداعيات كبيرة دولياً وإقليمياً.