ما هي أهداف واشنطن وراء كمين جعجع؟
كمين عين الرمانة المتجدِّد في الطيونة، محاولة فاشية من أجل كسر شوكة المقاومة الوطنية، وإعادة إحياء "المقاومة المسيحية". لكنّ أميركا توظّفه أملاً في تتويج استيلائها على الدولة العرجاء عبر الانتخابات.
لا يتجرّأ جعجع على استفزاز المقاومة بالسلاح لولا اطمئنانه إلى التزامها الثابت عدمَ انجرارها إلى الفتنة الداخلية، لكنه يستفيد من التوظيف الأميركي - الأوروبي على طريق إحكام قبضة التبعية على سياسات الدولة المنهارة، في مساعي تنصيبه ندّاً لـ"النشاطات الارهابية" (كما تراها أميركا)، وإثبات جدارته في إحداث "7 أيار مسيحي مصغّر"، بحسب تعبيره.
هذا الأمر يدلّ على أن كمين جعجع قابل لتكرار "مكاسب صافية"، عبر قتل المدنيين قنصاً، وقابل للتنقل والتمدّد إلى أطراف إجرامية أخرى تسابق جعجع في التفجير من أجل نيل حظوة الاعتماد من جانب الأميركي وأتباعه الخليجيين، كما ظهر الأمر سابقاً في "خلدة" وغيرها.
القضاء المعطوب حصان طروادة
مركز الثقل في المساعي الأميركية - الأوروبية لأبلسة المقاومة، تمهيداً لخنقها، يتمحور حول تحميلها مسؤولية كل أزمات اهتراء النظام المستفحلة، نتيجة سياسات التبعية لـ"المجتمع الدولي"، وفي مقدمتها السياسات المالية تحت إشراف الخزينة الأميركية ووصاية البنك الدولي، وأيضاً نتيجة التجويع والنهب وخراب الإدارات العامة عبر توزيعها مغانمَ فاسدة على الطبقة السياسية والمالية.
في هذا السياق، لعلّ مؤسسة القضاء المعطوب هي الأداة الأكثر فعالية في حرب التحريض ضد المقاومة، بسبب ما تثيره في المخيّلة الفطرية من مقدّسات العدالة المجرّدة، ولاسيما أن جريمة، بحجم كارثة المرفأ، تدغدغ الطموح الشعبي ضد جرائم الطبقة السياسية، لكنها تفتح، في المقابل، شهية اصطيادها على طبق من ذهب من أجل تلبيس المقاومة جريمة العصر.
بينما يسعى حزب الله لقَطع الطريق على استنسابية المحقّق العدلي طارق بيطار، والتي تُنذر بتسعير حملة التحريض ضد المقاومة، فإنه يصطدم بمؤسسة قضائية مبنيّة، ككل مؤسسات الدولة، على التبعية السياسية من خلال المحاصصة الطائفية، من أجل خدمة نفوذ المصالح والأهداف الخاصة الداخلية والخارجية.
فهي، ككل مؤسسات الدولة، بعضها متورّط ومتواطئ في انفجار المرفأ وجرائم الفساد والنهب...، وبعضها الآخر مشلول أو مُستلَب، من خلال الخضوع لإرشادات ونصائح ومرجعيات داخلية وخارجية، وفي مقدّمتها فقهاء المؤسسات الدولية "المنزَّهة عن الغرَض".
لم تتحرّك مؤسسة القضاء لتوضيح معالم التحقيقات الأوّلية، التي أجراها محقّقون أميركيون وفرنسيون وروس لحظة الانفجار "بطلب من لبنان". ولم تجد نفسها معنيّة بشكاوى حزب الله من أجل كشف حقيقة الإشاعات والأضاليل الإعلامية والسياسية المتواترة منذ اللحظة الأولى لإلصاق التهمة بالمقاومة.
لكن مؤسسة القضاء كانت "تنسّق المشاورات" مع الشركاء الدوليين، على وجه خاص، ولا تزال، بشأن وجهة التحقيق وأدواته القانونية وشعاراتها السياسية التي تضجّ بها العواصم الغربية.
وليس من قبيل المصادفة تحرّك رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة التمييز...، على صدى "المجتمع الدولي"، وعلى رأسه نيد برايس، الداعي إلى "مواجهة نشاطات حزب الله الإرهابية". وهو ما ردّده جعجع، وردّده غيره في الحكومة بأحرف أخرى.
على أبواب الذكرى السنوية، وبالتزامن مع تحقيق سلَف البيطار فادي صوّان، اطّلعت وكالة "رويترز" على تقرير مكتب التحقيقات الأميركي، الذي تسلَّمت مؤسسة القضاء اللبناني "ومن يعنيه الأمر" في لبنان نُسخةً عنه.
لم تكشف الوكالة فحوى التقرير، كونه ليس أكثر من معطيات "تقنية" معروفة مسبّقاً، لكنّ الأجواء السياسية الداخلية والخارجية، والتي صاحبت التحقيق العدلي، تنمّ عن مسار قانوني ــ سياسي يستهدف تغذية الإشاعات والإيحاءات بمسؤولية المقاومة، أملاً في تحقيق هدف سياسي استراتيجي لا تُغفله الإدارة الأميركية فيما يسمّى "مكافحة الإرهاب" في لبنان والمنطقة.
القضاء اللبناني، الذي يتحمّل كغيره من الإدارات العامة، قسطاً وافراً من تسيّب "مغارة علي بابا" في المرفأ وغيره، لم يبدأ بنفسه من أجل كشف ملابسات الإذن القضائي لتفريغ حمولة النترات في المرفأ وبقائها منذ عام 2013. ولم يحقق في مراسلة المدير العام للجمارك إلى قاضي الأمور المستعجلة بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 2017، ولا في مراسلات سابقة ولاحقة.
والحال، لم تُبدِ مؤسسة القضاء حرصها على الاستقلالية في تاريخ التبعية الطويل للطبقة السياسية والمصالح وأصحاب النفوذ، بل على العكس من ذلك، تستفيد، كغيرها من الإدارات الحكومية، بحظوة ورعاية وبحبوحة تحت الوصاية.
وعلى الرغم من فيض نخبة قضائية وطنية كفؤة ونزيهة، فإن القضاء لم يتحمّل مسؤولية الدفاع عن استقلاليته، ولم ينتفض يوماً من أجل انتزاع الصدقية، مهنياً ووطنياً، مبرّراً تقاعسه بأنه يؤدي قسطه للعلا تلمّظاً في المناسبات الحرجة من ذئبية خضوع القضاء لـ"التدخلات السياسية".
ولعلّ الطرف السياسي الوحيد الذي ينأى بنفسه عن "حصّته"، طائفياً وسياسياً، بحسب تقاسم الحصص والمغانم في النظام اللبناني، هو حزب الله، الذي يتنازل لغيره في القضاء وفي كل الإدارات الحكومية في دولة "البقرة الحلوب".
لكن حزب الله يحصد كل أوزار فساد النظام وجرائم إداراته ومؤسساته، نتيجة اتِّهامه بالسيطرة على سياسات الدولة، لمجرّد مساعيه للحدّ من سياسات التبعية وإملاءاتها، ولمجرّد محاولاته، من دون جدوىً، بثَّ الروح الوطنية في مؤسسات خَرِبَة وإدارات فاسدة، تؤدي أي محاولة لرتقها إلى حرب أهلية باردة، ثم ساخنة.
دولة تحت الوصاية
الدولة العرجاء، والتي تحكّمت السياسات الأميركية ــ الغربية في مفاصل انهيارها منذ اتفاق الطائف، تراها الإدارة الأميركية لقمة سائغة من أجل فرض "إصلاحات هيكلية" تستكمل التخريب الممنهَج عَوْداً على بَدء.
لكنها ترى الفرصة سانحة لما سمّته فيكتوريا نولاند في بيروت "إصلاحات سياسية"، تستهدف إزالة "ازدواجية السلطة" من تأثير المقاومة وحلفائها في منع الارتماء تحت إمرة الإدارة الأميركية التي تبحث عن إحكام السيطرة على لبنان والعراق، تعويضاً عن اضطرارها إلى "كسر الجليد" مع إيران وسوريا.
تهديد السلم الأهلي على حافة الانفجار، يسرّع الخطى في المراهنة على خردقة بساط حزب الله المتمسّك بأولوية المحافظة على السلم الداخلي، لكن المراهنة تستهدف قَطف مؤسسات الدولة السياسية والقضائية والاقتصادية ثمرةً يانعة، فبعضها أينع وحان قطافه، والقضاء ليس نشازاً.
تعويل المقاومة على "اللعبة الديموقراطية" والدستورية لتحصين مناعة المؤسسات، قد يكون قِربةً مثقوبة. فعلى مدى تاريخها، تلجأ الإمبريالية إلى الحرب والعنف والقتل من أجل تحقيق أهدافها.
لكن لجمها، عبر عدم الانجرار إلى العنف وتهديد السِّلْم الأهلي، لا بد من مرافقته بثورة من داخل المؤسسات وخارجها، سياسياً وفكرياً، من أجل إطلاق عنان الكفاءات المَهولة والقادرة على رسم الحدّ الفاصل بين الدولة والمزرعة.