تونس إلى أين؟
خطوات الرئيس قيس سعيّد تبدو محاولة لوقف انهيار الدولة بأيدي "النهضة" وطبقة رجال الأعمال في السلطة. لكنّ تغيير المسار دونَه معركةٌ قاسية في مواجهة وصفة التخريب، المسمّاة "الانتقال إلى الديموقراطية" الأميركية.
أغلبية الفئات الشعبية التونسية، من أصل الـ 70% من السكّان الذين زادت "حكومات الثورة" في إفقارهم وتهميشهم، ترحّب بإجراءات الرئيس قيس سعيّد أملاً في تغيير مسار الحكم الذي استولى على الثورة، ثم استحوذ على الدولة والثروات العامة، محاصصةً وغنيمةً، بحَسْب وصف الرئيس.
الروابط المهنية والنقابية واتحاد الشغل... والتي ثارت على حكم ابن علي مع الشعب، تشمّر عن سواعدها من أجل المشاركة في تصحيح المسار، فتبدأ ورشة العمل نحو خريطة طريق آمنة، عَبْرَ حكومة إنقاذ وطني وبرنامج عمل سياسي ـ اقتصادي ــ اجتماعي، قد تصل إلى مشاركة شعبية مباشِرة في صنع القرار السياسي.
والحال، من البديهي أن ترى "النهضة" والطبقة المستفيدة من سلطة الحكم، إجراءات سعيّد "انقلاباً كامل الأوصاف" على ديمقراطيتها، وعلى مؤسساتها الدستورية. لكنّ تخوّف كثير من النُّخَب السياسية والثقافية العربية المعارضة (ومنها الاشتراكي همّة الحمامي)، ممّا سمّته "عودة الاستبداد"، يدلّ على تخمة التشبّع بتقديس الديموقراطية الأميركية، المتخوّفة على إنقاذ مسمار ثمين في مركب يغرق في بحر العواصف.
سلطة منتخَبَة لتجديد نظام ابن علي
الرئيس الخبير في الفقه الدستوري، هو، في موقع اختصاصه، أحدُ الفقهاء الكبار المشكّكين في نجاعة الديمقراطية التمثيلية البرلمانية، في التعبير عن إرادة الشعب.
يميل، مع غيره من المختصّين الكبار، إلى الديمقراطية التشاركية، أو الديمقراطية المباشرة في التعبير عن إرادة الشعب، استناداً إلى تجارب تاريخية، منذ اليونان القديمة، إلى كومونة باريس (عام 1870) وحركة "المير" في روسيا عام 1906، إلى الجمعيات العمومية العمالية والفلاحية في إسبانيا وأوروبا، إلى تجربة سويسرا والحركة "الزاباتية" في المكسيك عام 1994... إلخ (راجع، على سبيل المثال: أنطوان بيفور، "نحو ديموقراطية تشاركية"، منشورات الصحافة في العلوم السياسية، باريس، 2002).
الثابت أن الرئيس سعيّد ليس من الدوغمائيين، الذين يتخيّلون الدستور والديموقراطية التمثيلية كتابَين إلهيَّين مقدَّسين، يُتَّهَم من يشكّك في قدسية وجودهما بصبغة الإلحاد أو الشعبوية، كما يتخيّل بعض المحرّضين وبعض محدودي الأفق أن سعيّد يستلهم نظرية القذافي.
المعضلة الإشكالية في احترام دستور معلَّب، جاهز للتصدير و"غّب الطلب" (إزالة مقاطعة "إسرائيل" مثلاً)، تعاني جرّاءَها كلُّ دول الجنوب التي تبنّت الديموقراطية الأميركية في إثر انتهاء حركات التحرّر الوطني.
تعاني جرّاءها أيضاً الدولُ الأوروبية بعد "دستور ماستريخت"، عام 1992، والذي تراجعت من خلاله عن ديمقراطية الدولة (سياسياً واجتماعياً)، عَبْرَ تبنّي الاتحاد الأوروبي نموذجَ "الديموقراطية الأميركية".
هذه الدول التي قضت على دور الدولة الراعية للحقوق الطبيعية والمكتسَبة، تتغوّل في خدمة مصالح الشركات الكبرى والرأسمال التجاري، بحسب "لوبيات" النموذج الأميركي في غابة التوحّش.
ولا تؤدّي هذه الانتخابات البرلمانية إلى التعبير عن إرادة الفئات الواسعة، والتي كانت تتيح لها الدولة أن تكون سلطة موازية للمجتمع المدني (الأحزاب والنقابات والروابط...)، وتتمتع بحق التعبير عن الإرادة الشعبية، عبر محاسَبة الحكومة وإسقاطها على الطاولة وفي الشارع، بين فترتين انتخابيتين، وليس في أثناء الانتخابات في صناديق الاقتراع.
كارثة جائحة كورونا الأخيرة في تونس، أدّت إلى أن يقطع قيس سعيّد الشكَّ بيقينٍ مفادُه أن الحكومات المتعاقبة "رهينة ائتلافات حاكمة تخدم مصالحها الخاصة"، بحسب تعبير الامين العام المساعد لاتحاد الشغل سامي الطاهري، وأن الانتخابات البرلمانية تتحكّم فيها طبقة النظام القديم المتجدّد بائتلافات سياسية، ورجال أعمال فاسدين، لتعطيل دواليب الدولة.
العائلات المافياوية الـ 46 في نظام ابن علي، جدّدت نفوذها ومصالحها منذ حكم "الترويكا"، ووسّعت نفوذها ومصالحها في الحكومات والبرلمانات المتعاقبة (تقدَّر زيادة ثرواتها المشبوهة بالفساد منذ عام 2012 بنحو 20%).
أُُضيفت إليها مافيات جديدة، من طبقة التجّار ورجال الأعمال "الحلال"، وعصابات تهريب الأسلحة والمخدِّرات والسوق السوداء مع ليبيا والجزائر... فاحتلت تونس المرتبة الخامسة عالمياً في تبييض الأموال.
في طريق تصحيح المسار؟
الرئيس قيس سعيّد ليس من دعاة التغيير الثوري للنظام، ولا الظروف الداخلية والإقليمية متاحة لتعيير جذري قد يشوبه العنف وجرائم المجموعات البربرية، والتي لا تزال أميركا تحتفظ بخدماتها في المنطقة. فسرقة الثورة ولجم زخمها في تونس أدّيا إلى زيادة نفوذ قوى الثورة المضادة ومصالحها، والى استفحال الخراب، سياسياً واجتماعياً.
في إطار التزامه "العدالة الانتقالية" التي انتهجتها جنوب أفريقيا من أجل المصالحة الوطنية، دعا الرئيس سعيّد عام 2012 عدداً من الهيئات الدولية، بينها برنامج الأمم المتحدة للإنماء، إلى الضغط من أجل "مصالحة جزائية" مع متنفّذي النهب والأموال الفاسدة.
بعده، دعا الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، في عام 2013، إلى قانون المصالحة الاقتصادية، رديفاً لقانون المصالحة السياسية، الذي أسفر عن "الهيئة العليا للعدالة الانتقالية" لتعزيز أواصر الأخوّة بين طبقة ابن علي وائتلافات السلطة الجديدة.
لم تسمح البرلمانات والحكومات المتعاقبة، المتخَمة بالمتهَمين والمتنافسين في زيادة مصالحهم في محاصصة السلطة والدولة، بالمسّ بـ"كرامة" المستولين على الثورة والدولة والثروة العامة.
في المقابل، لم تستطع "هيئة الحقيقة والكرامة" لجبر الضَّرَر عن الشهداء والجرحى، غيرَ إصدار تقريرها الختامي في الجريدة الرسمية، وإصدار قائمة الشهداء والجرحى، والتي كان من المفترض أن تقرّها الحكومة في مهلة أقصاها شهر حزيران/يونيو الفائت.
فلسفة "العدالة الانتقالية" لم تُسفر في جنوب أفريقيا عن أثر يُذكَر بعد 25 سنة من المسار. ومن الصعب أن تُسفر في تونس عن نتائج مرجوّة في المدى المنظور. فأخطبوط تونس هو مرآة تعكس تشابك عالم تماسيح الغابة المتوحّشة، في المستويين الدولي والإقليمي، وصولاً إلى المسنوى المحلي، وبالعكس.
تصدّي قيس سعيد لأزمات اهتراء النظام، عبر التصويب على الأخطبوط التونسي، من شأنه أن يقيّد حرّية النهب وتعميم الفساد الذي تتعطّل حركته تحت الضوء. لكن خروج المسروقين في عيد الجمهورية، يوم 25 تموز/يوليو، يدفع إلى الذهاب إلى أبعدَ ما يمكن، في طريق تصحيح المسار.