بعد 48 عاماً من التدخل التركي.. قبرص من جديد!
على الرغم من مرور 48 عاماً على التدخل العسكري التركي، وإعلان جمهورية شمالي قبرص التركية في عام 1983، فإن الحصار الدولي ما زال مفروضاً على القبارصة الأتراك، ولا يعترف أحد بجمهوريتهم سوى أنقرة.
بعد سلسلة من التهديدات، التي أطلقها الرئيس إردوغان ضد اليونان وهدّدها بالرد العسكري في حال استمرارها في سياسات الاستفزاز في بحر إيجه، اتجهت الأنظار هذه المرة صوب قبرص، التي قال وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، إنهم سيرسلون إليها مزيداً من القوات لتعزيز الوجود العسكري في الجزيرة، ويقال إن حجمه نحو 25 ألفاً. وهم موجودون هناك منذ التدخل العسكري التركي في 20 تموز/يوليو 1974، والذي جاء رداً على الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط قبارصة يونانيون قوميون متطرفون، أطاحوا الأسقفَ مكاريوس الذي كان رئيساً لجمهورية قبرص.
وأصبحت تركيا واليونان وبريطانيا دولاً ضامنة لاستقلال (1960) الجزيرة، مع الاعتراف لأي منها بالتدخل في حال تدهور الوضع الأمني هناك. وهو ما تحجّجت به أنقرة بعد الانقلاب المذكور، وتخوفت من أن يُستهدف القبارصة الأتراك، وكانوا يشكّلون نحو 20 في المئة من سكان الجزيرة، وكان عددهم آنذاك 600 ألف تقريباً.
وعلى الرغم من مرور 48 عاماً على التدخل العسكري التركي، وإعلان جمهورية شمالي قبرص التركية في عام 1983، فإن الحصار الدولي ما زال مفروضاً على القبارصة الأتراك، ولا يعترف أحد بجمهوريتهم سوى أنقرة.
شجّعت تركيا مواطنيها منذ البداية على الهجرة إلى الشطر الشمالي من الجزيرة، بهدف تحقيق التوازن السكاني مع القبارصة اليونانيين المعترف بهم دولياً، بصفتهم يمثلون الجمهورية القبرصية التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في نيسان/أبريل 2004، وبقي القبارصة الأتراك خارجه، كما هي الحال بالنسبة إلى أتراك تركيا. وفشلت جميع المساعي الدولية والأميركية والأوروبية في إيجاد حلّ نهائي للأزمة بتوحيد شطري الجزيرة في جمهورية فدرالية مشتركة تضم كيانين، مستقلين تماماً فيما يتعلق بالأمور الداخلية، على أن يتقاسم الطرفان السلطات التنفيذية مناصفةً بعد انسحاب القبارصة الأتراك من نحو 8-9% من الأراضي التي يسيطرون عليها الآن، وهي 36% من مساحة الجزيرة. وفيها قاعدتان بريطانيتان مهمتان جداً بالنسبة إلى أمن الدول الاستعمارية، ومعها "إسرائيل"، باعتبار أن الجزيرة تقع قبالة الشواطئ السورية واللبنانية والإسرائيلية، وفي الشطر الشمالي التركي منها مرفأ لليخوت السياحية، تقوم شركة يهودية بتشغيله.
كما يوجد في شطري الجزيرة كثير من الاستثمارات الإسرائيلية واليهودية، مع وجود مكثّف للموساد، وخصوصاً بعد أن وقّعت "تل أبيب" عدداً من اتفاقيات التنسيق والتعاون، عسكرياً واستخبارياً، مع نيقوسيا وأثينا بتشجيع من واشنطن وباريس ولندن، وخصوصاً بعد اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في جوار الجزيرة وقبالة الشواطئ الإسرائيلية.
وكان هذا الغاز سبباً كافياً في توترات جديدة في المنطقة، كما هي الحال بين "إسرائيل" ولبنان وكل من تركيا و"إسرائيل" واليونان والقبارصة اليونانيين، لأن أنقرة تقول إنها تمثّل حقوق القبارصة الأتراك.
ودفع ذلك تركيا إلى إرسال سفن البحث والتنقيب عن الغاز إلى جوار الجزيرة، وهددت بالتدخل العسكري في حال قيام القبارصة اليونانيين بأي عمل استفزازي في المنطقة.
لم تكتفِ تركيا بذلك، بل وقّعت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، لتمنع عبر ذلك مدَّ أنابيب الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى اليونان، ومنها إلى ايطاليا ثم أوروبا. وردّت حينها أثينا على هذه الاتفاقية باتفاقيات مماثلة مع القاهرة وروما، في الوقت الذي تسعى أنقرة للتوقيع على اتفاقية مماثلة مع "تل أبيب" بعد أن حققت أهدافها في المصالحة الاستراتيجية معها. وهو ما سيجعل تركيا أكثر قوة في مساومات شرقي الأبيض المتوسط بعد أن وقّعت الأسبوع الماضي مع حكومة الدبيبة اتفاقيات جديدة للاستثمار المشترك في مجالَي الغاز والبترول. ودفع ذلك وزير الخارجية اليوناني، نيكوس داندياس، إلى القيام بزيارة مفاجئة للقاهرة (الأحد) ليلتقي نظيره المصري سامح شكري، وأعلنا معاً رفضهما الاتفاقية التركية – الليبية، ولم تعلق عليها "تل أبيب" .
وعودة إلى التوتر بين أثينا وأنقرة، والمتوقع له أن يشهد عدداً من حالات المد والجزر، مع اقتراب موعد الانتخابات في تركيا (أيار/مايو المقبل) واليونان (تموز/يوليو المقبل)، ما دام إردوغان وميتسوتاكيس (رئيس الوزراء اليوناني) في حاجة إلى مزيد من المقولات والمواقف القومية والدينية والتاريخية الحماسية. ويستبعد الجميع أن تفجّر هذه المقولات والمواقف الوضعَ العسكري بين البلدين في بحر إيجه ما دامت تركيا واليونان عضوين في الحلف الأطلسي، ومن دون أن يمنع ذلك بعض الأوساط القومية التركية من اتهام واشنطن بالانحياز إلى جانب أثينا والقبارصة اليونانيين بعد أن ألغت إدارة بايدن الحظر المفروض على مبيعات الأسلحة لنيقوسيا لضمان وقوفها إلى جانب الدول الغربية في حربها ضد روسيا الأرثوذكسية، وهي حال اليونان والقبارصة اليونانيين الأرثوذكس.
ويعرف الجميع أن ميزان القوى، عسكرياً وسياسياً، ليس لمصلحتهم في الجزيرة، بعد أن سيطر الرئيس إردوغان على معظم المؤسسات والمرافق في جمهورية شمالي قبرص التركية، وزاد عدد المواطنين الأتراك فيها على ضعف القبارصة الأتراك الذين هاجر معظمهم إلى بريطانيا وأستراليا بعد أن فقدوا الأمل في الحل النهائي للمشكلة.
وهم يتهمون أنقرة بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الشطر الشمالي، إن كان عبر الجيش والمخابرات، أو عبر الأحزاب والقوى الموالية لها، والتي تتلقى تعليماتها من السفير التركي في نيقوسيا الشمالية. وفاجأ الرئيس إردوغان الجميع عندما قام بتعيين متين فايزي أوغلو سفيراً جديداً له هناك، وهو ما أثار ردود فعل واسعة وعنيفة لدى المعارضة التركية وقطاعات واسعة من القبارصة الأتراك، الذين يتهمون إردوغان بالعمل على تحويل الشطر الشمالي التركي إلى "مستعمرة تركية وضمها إلى تركيا، كما هي الحال في لواء إسكندرون"، والقول هنا للرئيس السابق لجمهورية شمالي قبرص التركية، مصطفى أكينجي.
يجدر التذكير هنا أن السفير الجديد، فايزي أوغلو، كان من ألد أعداء إردوغان عندما كان رئيساً لاتحاد نقابات المحامين الأتراك، ونجح إردوغان في كسبه إلى جانبه في مقابل امتيازات مادية ومعنوية، منها تعيينه سفيراً في نيقوسيا.
وهذا ما فعله إردوغان مع آخرين أمثاله، منهم أكامان باغيش، الذي كان متهَماً في قضايا فساد خطيرة جداً، تورّط فيها نجل إردوغان أيضاً عام 2013، فتم تعيينه سفيراً لتركيا في براغ.
في جميع الحالات، وأياً تكن التطورات المحتملة في الموقف التركي في قبرص، وخصوصاً بعد التقارب مع "تل أبيب"، بات واضحاً أن إردوغان يريد للشطر الشمالي من الجزيرة أن يتحول إلى مخفر متقدم يحقّق من خلاله أهدافه السياسية والعسكرية والعقائدية، ومنها إحياء ذكريات الحكم العثماني للجزيرة، في الفترة 1571 – 1897، عندما قام السلطان عبد الحميد بتأجيرها لبريطانيا في مقابل أن تدافع عنه في الحرب مع روسيا.
ويعرف الجميع أن هذه الذكريات تحتاج إلى وجود عسكري مكثف وسيطرة كاملة على الواقع الاجتماعي الشعبي في شمالي قبرص بعد أسلمة مؤسساتها (كما هي الحال في تركيا)، التي تأتمر بأوامر أنقرة، التي تغطي كل احتياجات القبارصة الأتراك ما دام أن لا أحد يعترف بهم دولياً. ودفع كل ذلك أنقرة إلى إقامة قاعدة لطائراتها المسيّرة التي تريد لها أن تساعدها على تحقيق تفوق عسكري، ليس فقط تجاه القبارصة اليونانيين، بل في شرقي الأبيض المتوسط بصورة عامة، بما في ذلك المياه الدولية، حيث تحلق هذه المسيّرات باستمرار ما دامت محمية بالطائرات والسفن والصواريخ التركية الموجودة في الجزيرة القريبة من ليبيا وسوريا، حيث الوجود العسكري التركي المكثف.
في هذا الوقت، تراقب كل دول المنطقة، وأهمها اليونان ومصر، هذه التحركات التركية، وخصوصاً بعد أن أثبتت المسيّرات التركية نجاحها في جبهات القتال في ليبيا وكاراباخ وشمالي سوريا والعراق ضد أهداف تابعة لحزب العمال الكردستاني التركي وجناحه السوري، وحدات حماية الشعب الكردية.
وتتحدث المعلومات عن مساعي أنقرة لتصنيع حاملة طائرات متجولة في الأبيض المتوسط، وعلى متنها العشرات من هذه المسيّرات.
يبقى هناك عدد من الأسئلة، منها: كيف سيكون رد فعل بريطانيا على التحركات التركية ما دامت لا تستهدف قواعدها في الجزيرة؟ وماذا ستفعل واشنطن، التي أقامت وتقيم قواعد عسكرية في اليونان، وتسعى لتطوير علاقاتها بالقبارصة اليونانيين، وهو حال فرنسا و"إسرائيل" ومصر، وحتى الإمارات والسعودية.
وكان إردوغان نجح في مصالحتها معاً، ما دام يريد لغاز المنطقة وبترولها أن يصلا إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا، التي هي في حاجة إلى هذا الغاز مع استمرار الحرب الأوكرانية. وأثبت إردوغان أنه يمسك بعصاها من الوسط، كما هي الحال في عدد من الساحات، ومنها قبرص، ما دام يعرف أنه الأقوى فيها من خلال أوراق المساومة التي يملكها، كما هي الحال في سوريا وليبيا والعراق وكاراباخ، بل حتى في البلقان، حيث الأقليات المسلمة ذات الأصل التركي، وحلم إردوغان أن يجمعها كلها في دولة تركية موحَّدة، من حدود الصين إلى البحر الأدرياتيكي، وقد تكون قبرص نجمتها!