العقوبات الاقتصادية الأميركية ركيزة عضوية في سياسات الهيمنة وإلحاق الضرر بالشعوب
عند مواكبة خطاب بايدن، يلاحظ استحضاره وأعوانه، التبجح بإيلاء الأولوية "للعمل الديبلوماسي" في التعاملات الدولية. ولا يجد أولئك غضاضة في تناقض المعلَن في ثنايا السردية الرسمية مع تفعيل أقوى لسياسة العقوبات الاقتصادية.
تلجأ الحكومات الأميركية المتعاقبة إلى تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية، الرامية إلى "الإقصاء والعزل والمعاقبة" لخصومها، والتي لم تكن وليدة الحرب الباردة في القرن الماضي، أو نتيجة استفرادها بنظام كوبا الفتيّة، بل امتدت إلى عمق نشوء الكيان السياسي الأميركي منذ 215 عاماً، وحصدت بذلك الفشل تلو الآخر، وواكبها انعزال سياسي على المستوى الدولي. كما أنها تحظى، ولا تزال، بمدى تأييد يكاد يكون مطلقاً بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي.
النُّخب السياسية الحاكمة أيقنت، منذ نهاية الحرب الباردة، أن تبنيها سياسة "العولمة"، كعنوان مراوغ لبسط هيمنة القطب الواحد، لن يُعمّر طويلاً، أقله لدى استراتيجيّي المؤسسة في بُعديها السياسي والعسكري، واستغلال أقصى ما يمكن توظيفه من موارد اقتصادية تراكمت في إبّان هجرة التقنيات الصناعية إلى أسواق الشرق الأقصى، سعياً وراء تكديس مزيد من الأرباح.
أدّت تلك السياسات المتّبعة إلى تراجع متانة الاقتصاد الأميركي، من اقتصاد يمتلك آليات إنتاج وصناعات ضخمة، إلى اقتصاد محوره "المضاربات المالية"، وتنامي القطاع الخدماتي داخلياً، والاعتماد على منتوجات ما تزرعه الدول الأخرى وتُنتجه من مواد استهلاكية، بحسب رؤية بعض النُّخب الليبرالية.
في البُعد الاستراتيجي عينه، كان مرئياً، منذ زمن قريب لدى أقطاب تلك النخب، أن سياسة العولمة والقطب الأوحد ستنزوي، بفعل الإفراط في الانتشار وتراكُم تكاليف التمدد العسكري العالية من أجل المحافظة على مكانة متقدمة لأميركا، وتحلّ مكانَها تكتّلات إقليمية تنافسها في مراكز السيطرة الاقتصادية والتجارية، في الدرجة الأولى، مدعومة ببروز تحالفات متعددة الأقطاب، لها الفضل في التخفيف من عبء سلسلة العقوبات الاقتصادية والتجارية، والتي تتسابق واشنطن مع نفسها في تفعيلها ضد خصومها، صغاراً أو كباراً، في الظروف الدولية الحسّاسة راهناً.
ويبقى السؤال الجوهري، لدى النُّخب الفكرية والسياسية الأميركية، بشأن مردود "الفائدة" من تلك السياسات على مجمل مستقبل الكيان والمفروضة على "أكثر من 30 دولة" لتاريخه، والذي لا يتوانى مسؤولوه عن ترداد التزامهم متطلبات "اقتصاد السوق" ونشر "الاقتصاد الحر"، وفي الوقت نفسه وأد التنافس بين القوى الدولية المتعدّدة، وخنق اقتصادات دول وكيانات أخرى بغية فرض انصياع الدول الوطنية الأخرى لمشيئتها.
عند مواكبة خطاب الرئيس جو بايدن، في بُعده الدولي، يلاحظ المرء استحضاره وأعوانه، من وزراء ومسؤولين آخرين، التبجح بإيلاء الأولوية "للعمل الديبلوماسي" في التعاملات الدولية. ولا يجد أولئك غضاضة في تناقض المعلَن في ثنايا السردية الرسمية مع تفعيل أقوى لسياسة العقوبات الاقتصادية وأشمل مدىً، والتي أضحت "الخيار الأول" لصنّاع القرار "عوضاً من تسخيرها أداةً من الأدوات الدبلوماسية" المتاحة لحمل الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات تراها واشنطن حيوية، وما ينتج منها من "أذىً للمدنيين يفوق ما يمكن السماح به في ميدان المعركة"، بحسب رؤية النخب الليبرالية أيضاً.
من الفرضيات المسلّم بها، لدى النخب الأميركية النافذة، ندرة مدى نجاح سياسة العقوبات المفروضة على مختلف الدول والكيانات المتعددة. وتأتي إجابتها عن الحكمة من وراء تطبيقاتها بأنها "أداة سياسية رخيصة، ليس لها انعكاسات أو تكلفة على الأوضاع الداخلية الأميركية".
يُذكَر أن الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري، ينعمان بالإجماع على تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية ضد الدول الأخرى، فضلاً عن "العقوبات الثانوية" ضد مؤسسات ومصالح تجارية تملكها أطراف "ثالثة" غير مدرَجة في لائحة العقوبات، لكنها تُعاقَب، إن ثبت لواشنطن عكس ذلك، كما شهدنا في إبّان ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وارتكزت عليها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
قادة الحزب الديمقراطي في الكونغرس كانوا وراء صدور "قرار قيصر"، من أجل إنزال عقوبات شاملة ضد سوريا، و"معاقبة أي مؤسسة أجنبية، في أي مكان في العالم، تقدّم المساعدة من أجل إعادة إعمار سوريا".
على الرغم من "انفتاح" الرئيس باراك أوباما على كوبا، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بها، فإنه أخفق في رفع العقوبات المتراكمة عليها، نظراً إلى توجّس أقطاب الحزبين في الكونغرس من تغيير في سياسات البلاد نتيجة ظروف دولية، وأصرّوا على سن قانون عقوبات ضد كوبا في عقد التسعينيات من القرن الماضي، على الرّغم من تمتّع الرئيس أوباما بصلاحية تعليق العقوبات ضد أي طرف، وفق ما يراه يخدم "الأمن القومي" الأميركي.
وزير الخارجية الأسبق، مايك بومبيو، غرّد مهدّداً أيّ دولة، وضمنها دول أوروبا الغربية، بأنها "ستخضع لأقسى العقوبات، وستشمل أفراداً أو مؤسسات، لمجرد التفكير في عقد صفقات أسلحة مع إيران"، وستُطبَّق عليها قيود مصرفية (18 تشرين الأول/أكتوبر 2020).
الولايات المتحدة "تُفعّل مروحة شاملة من العقوبات الاقتصادية، بوتيرة متزايدة، على الرغم من خلوّ سِجلِّها من أي مؤشرات على النجاح، ومن تعاظم الأدلّة أيضاً على تسبّبها بإلحاق أضرار هائلة بحق مواطني البلدان" المستهدَفة (دانيال لاريسون، المحرّر السابق في مجلة "ذي أميركان كونسيرفاتيف"، 16 أيلول/سبتمبر 2022).
الأستاذ الجامعي والصحافي المرموق، بيتر بينارت، أوجز عجز الدبلوماسية الأميركية عن فرضها سياسة العقوبات والمقاطعة على الخصوم، قائلاً إنه سلاح "يتغذّى على فكر أسطوري، فحواه اعتقاد واشنطن أن تلك الدول سترضخ لشروطها في نهاية المطاف مع استمرار معاقبتها، وانهيار نُظُمها" (خلال مشاركته في ندوة صحافية في واشنطن، 28 نيسان/أبريل 2021).
وعبّر الصحافي الأميركي الشهير، سيدني هاريس، عن رؤية مماثلة أشبه بالنبوءة لتداعيات سلاح العقوبات، قائلاً إن "التاريخ يُعيد نفسه، لكن في تمويه ماكر لناحية عدم إحساسنا بمدى تطابقه مع الواقع إلّا بعد حدوث الضرر" (كتاب بعنوان "إزالة الأنقاض"، سيدني هاريس، 1986).
تدرك النُّخب الفكرية الأميركية عقم سياسة العقوبات، إذ تلجأ الكيانات والدول المعنية إلى ابتكار طرائق بديلة للإتجار وآليات أخرى لجني مردودها المالي بعيداً عن سيطرة الدولار. ولا يفوتها التنديد بسياسة تُلحق الضرر بالشرائح الاجتماعية المستهدَفة والأشد احتياجاً إلى الرعاية، صحياً واجتماعياً.
العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هي بمثابة "أعمال حربية موجَّهة، وتقتل" المدنيين (دانيال لاريسون، 16 أيلول/سبتمبر 2022).
القطب الصحافي المخضرم في الشؤون العربية، توماس ليبمان، أعاد تذكير المؤسسة الحاكمة بأن "العقوبات عادة ما تأتي بنتائج عكسية".
وجاء في دراسة أكاديمية أجرتها جامعة أوكسفورد، لتصنيف وجمع الأدلة والبراهين على الأضرار البالغة التي تسببها، ونشرتها في دوريّتها "غلوبال ستاديز كوارترلي"، في 31 آذار/مارس 2022، أن الحكومة الأميركية "تستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية أكثر من أي حكومة في العالم، وتضاعف الهوّة والبؤس بينها وبين المستهدَفين".
الدراسة جاءت ضمن عنوان مثير: "هل حالة البؤس والعناء حقاً تُحبّ المرافقة؟ تحليل المعاناة العالمية التي تُسبّبها العقوبات الاقتصادية الأميركية". واستطردت بالقول إن من نتائج العقوبات الأميركية أنها "تعمّق هوّة الشرخ بين الولايات المتحدة والدول المستهدَفة، وتُساهم في تعاظم الإجحاف واللامساواة على الصعيد العالمي".
من بين الأضرار التي رصدتها الدراسة "تعاظم الشعور بعدم الأمان الغذائي، وتردّي الرعاية الصحية"، ويواكب ذلك خطابٌ سياسي غربي مُستهلَك، مفاده أن أميركا "تقف مع مطالب الشعب" الذي حرمته من مقومات الحياة اليومية، كما في العراق وسوريا وليبيا والصومال وإيران ولبنان. ونشهد حالياً استهدافاً محموماً لروسيا بالعقوبات، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وصلت إلى السعي لفرض تسعيرة لمبيعات الطاقة الروسية، في سابقة تتناقض مع أسس اقتصاد السوق، والذي تتبجّح واشنطن بحرصها على ترويجه.