حرس الثورة يضرب مجدّداً.. أيّ معادلات بين خطوط النار؟
الأمر يستحق التوقف عنده لناحية مستوى الاشتباك وخصوصية الأطراف المنخرطين فيه، كذلك لناحية حساسية المسرح الذي حضن الحدث في بحر عمان.
لم تكن عادية المشاهد التي عرضتها وحدات حرس الثورة الإيرانية لعملية إحباط محاولة القرصنة الأميركية لناقلة نفط إيرانية في بحر عُمان، والتي تُظهر تصويب وحدات زوارق الحرس أسلحتها نحو بارجة حربية أميركية، وإجبارها على الانسحاب من بقعة عمل هذه الوحدات، أثناء قيامها باقتياد الناقلة الإيرانية وتوجيهها.
الأمر يستحق طبعاً التوقف عنده لناحية مستوى الاشتباك وخصوصية الأطراف المنخرطين فيه، أو لناحية حساسية المسرح الذي حضن الحدث، وما يعنيه على صعيد المواجهة الاستراتيجية المفتوحة بين إيران وخصومها في تلك المنطقة.
النقطة اللافتة والتي تستحق التركيز في المتابعة والتحليل، تتجاوز الحدث الظاهر بذاته، الذي رأى الجميع في الإقليم والعالم تفاصيله ومحطاته، خاصة أن نموذج الحدث أصبح مألوفاً في تلك المنطقة، بقيام وحدات حرس الثورة الإيراني بالتدخل في مواجهة وحدات غربية، وبنوع خاص أميركية، بحرية أو مسيّرة جواً، والاحتكاك بها وتوقيف بعضها أحياناً، حين كانت تتجاوز المياه أو الأجواء الإقليمية الإيرانية، أو حين كانت تتجاوز قواعد التجارة البحرية أو قواعد المرور البحرية المتعارف عليها بحسب القوانين الدولية.
هذا الحدث الذي يستحق التوقف عنده بقوة، يمكن وضعه في خانة إيجاد معادلة جديدة في الخليج استطاعت وحدات حرس الثورة الإيراني رسمها بتأنٍ وبدقة بين خطوط النار التي تتشابك وتتشعب مصادرها، بشكل يحمل مستوى مرتفعاً من الأخطار، وفي بقعة استراتيجية يمكن وصفها بالأكثر حساسية في العالم. تبعاً لذلك يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
أولاً: يمكن وضع العملية في خانة العمليات الخاصة، التي قامت بها وحدات مجوقلة نفّذت مناورة إهباط لمجموعة مجوقلة على سطح ناقلة النفط "الهدف"، وأجبرت طاقمها على التوجه نحو عمق المياه الإقليمية الإيرانية، وقد تمت عملية الإهباط في ظروف حساسة، تحمل مستوى مرتفعاً من الأخطار، في منطقة مكشوفة وممسوكة ومرصودة ضمن قطاع عمل وحدات الأسطول الخامس الأميركي في بحر عمان، والتي تعمل استناداً إلى قدراتها البحرية والصاروخية والجوية الموضوعة في تصرّفها، ضمن قطاع عمل يتجاوز آلاف الكيلومترات، بين أجواء أفغانستان وباكستان حتى كامل أجواء ومياه الخليج وبحر العرب حتى شمال المحيط الهندي وجنوب غرب البحر الأحمر، وصولاً إلى مشارف البحر المتوسط.
ثانياً: أثبتت وحدات حرس الثورة في المرحلة الثانية من هذه العملية، والتي قامت على طرد الزوارق والقطع البحرية الأميركة من بقعة العملية، ومن خلال ردّ فعلها السريع، واستجابتها الفورية للتعامل مع حدث طارئ وغير مألوف، أنها تتميز بجاهزية لافتة، عبر قيامها برصد سريع لبقعة بحرية فيها حركة ضخمة من مئات السفن التجارية والعسكرية التي تتداخل مساراتها بعضها مع بعض، بنحو يحتاج أي متابع أو معني أو مراقب إلى مروحة واسعة من المعطيات البحرية والاستعلامية والتقنية، كي يحدّد أو يفرز الصديق منها عن المشتبه فيه الذي تجب مراقبته ومتابعته، وعن العدو، مبرهنة هذه الوحدات أيضاً، أنها تنفّذ مهمتها بشكل كامل وواعٍ، حيث تتأهب مستنفرة ومتربصة لمسك بقعة بحرية هي الأكثر خطراً وتأثيراً على أمن إيران بشكل عام.
ثالثاً: حساسية التدخل الإيراني عبر هذه العملية الخاصة، أنها نُفِّذت تحت ضغط ضرورة التصرف والتنفيذ بسرعة، وإنهاء المهمة في مرحلتها الأولى قبل أن ينتقل العمل إلى مرحلة ثانية ستكون حتماً أخطر، وقبل أن تصبح المواجهة اشتباكاً أوسع، يتطلب تدخلاً بمستوى أعلى، في الوسائل وفي الجغرافيا، والتي قد تتطور وتنتقل إلى منطقة أو أكثر خارج بقعة العملية، فيما لو تمّ اقتياد الباخرة التي نُقلت إليها شحنة النفط الإيراني إلى سواحل دولة محيطة أو إلى مياهها الإقليمية، بعيداً عن المياه الإقليمية الإيرانية، حيث يصبح الاشتباك حينها أخطر وله خصوصية حساسة مرتبطة بالقانون الدولي، الذي استطاعت الوحدات الإيرانية الالتزام به حين اختارت العمل داخل مياهها الإقليمية.
رابعاً: لا يمكن أن ننظر بتاتاً إلى العملية بشكل مستقل ومنعزل عن ارتباطها بمناورة مُعدّة وبخطط مدروسة، تأخذ بعين الاعتبار جميع الاحتمالات، التي في مواجهة وحدات الأسطول الخامس الأميركي لن تكون (هذه الاحتمالات) بسيطة أو سهلة أو تقليدية، فيما لو قررت قيادة هذا الأسطول التعامل مع الحدث، المؤلم معنوياً لها، بما تملكه من قدرات، وبما يحفظ موقعها ومعنوياتها، وهذه الخطط المُعدّة من قبل الوحدات الإيرانية، والتي من الطبيعي أنها مستنتجة من قبل الوحدات الأميركية في حالات الاشتباك أو المواجهة المباشرة، حدّدت لهذه الوحدات أو ساعدتها على اتخاذ قرارها السريع والمناسب، بالانكفاء الفوري عن مهمة تخليص الناقلة من براثن وحدات الحرس الثوري، والانسحاب من بقعة العملية ومحيطها، أمام مرأى الحرس الإيراني والعالم.
من هنا، يمكن القول إن إيران عبر هذه العملية، ومن خلال ما قامت به، أولاً، أثبتت التالي:
- أنها لاعب أساسي ومؤثر في منطقة من الأكثر حساسية في العالم، لا بل أثبتت أنها اللاعب الأول من دون منازع في مسرح اشتباك استراتيجي، تنخرط فيه أقوى القوى والجيوش على الصعيد الدولي.
- أنها، وعند تعرّض مصالحها وأمنها القومي ومكانتها لأي خطر أو استهداف، جاهزة للذهاب بعيداً حتى النهاية، غير آبهة بأيّ مواجهة مهما كان مستواها. وفي الوقت الذي نرى فيه أن هناك قوى كبرى، تجد صعوبة في مواجهة الوحدات الأميركية المصنّفة من أقوى الوحدات عالمياً، نرى أن إيران تعتبر المواجهة مسؤولية وواجباً وحقاً وخياراً.
- حيث يصعب على دول كبرى التدخل بتحدٍّ وبقوة، في بقعة تشهد أكبر حشد عسكري برّي وبحري وجوّي في العالم، نجد إيران، رغم كل ذلك، تتدخل كما يجب، وبما يحفظ ويحمي حقوقها الطبيعية والبديهية، وبما يثبت قدرتها في تلك المنطقة، حافظة موقعها، لاعباً أساسياً في الاشتباك الإقليمي من ضمن الاشتباك الدولي، المرتبط بقوة بالصراع الدائر حالياً حول الاتفاق النووي مع أغلب القوى العالمية.
أخيراً، من خلال كامل مسار هذه العملية ومعطياتها وارتباطاتها بالاشتباك الدولي، فرضت إيران معادلة جديدة ولافتة مفادها: لا يمكن لأيّ قوى إقليمية أو غربية، وبالتحديد لا يمكن للأميركيين، فرض المعادلات بمعزل عن إيران، وأي معادلة كانت، في منطقة الخليج أو مرتبطة بمنطقة الخليج، إذا كانت عسكرية أو تجارية أو بحرية أو استراتيجية، لا تكتمل ولن يكتب لها النجاح، من دون أن يكون لإيران دور رئيسي في صياغتها وبلورتها والعمل بها.