ميدانيات ليبيا.. ما بعد عودة المشير
وعلى الرغم من عودة المشير أواخر الشهر الماضي إلى البلاد، إلا أن ما حدث خلال هذا الشهر كانت له مدلولات هامة تتعلق بمستقبل الجيش الليبي، ومستقبل العملية السياسية الليبية.
خلال فترة غياب المشير حفتر خارج ليبيا، تعرضت مدينة بنغازي لعدة هزات أمنية، كان أهمها محاولة الاغتيال الفاشلة لرئيس الأركان العامة للجيش الوطني الليبي في منطقة سيدي خليفة، وكذلك المصاعب التي تظهر من حين لآخر أمام محاولات ضبط الأمن داخل المدينة، والتي كان من أبرز معالمها الاشتباك الذي حدث بين وحدات البحث الجنائي وأفراد من كتيبة شهداء الزاوية في حي فينيسيا.
الموقف السياسي العام في ليبيا شهد تطورات لافتة خلال فترة غياب المشير، حيث تمّ تعيين رئيس جديد للمجلس الأعلى للدولة، وهو خالد المشري، أحد الأعضاء المؤسسين لحزب العدالة والبناء، الذراع الرئيسية لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا. وعلى ما يبدو فإن الرئيس السابق للمجلس عبد الرحمن السويحلي يطمح بانسحابه من رئاسة مجلس الدولة، في دور مستقبلي في رئاسة مؤسسات حكومية مثل الحكومة المقبلة أو مجلس النواب القادم.
وفور تولي الرئيس الجديد منصبه، قام بشكل سريع بعرض مبادرة لعقد لقاء مع رئيس مجلس النواب الذي يقع مقره في طبرق عقيلة صالح، وهو ما تمّ فعلاً في العاصمة المغربية. وفي هذا اللقاء تمّ التوافق على إنشاء لجنتين لتعديل اتفاق الصخيرات السياسي، وفي نفس هذا السياق حدث لقاء بين عقيلة صالح ونواب في مجلس الدولة يتبعون لمدينة مصراته، وفي هذا اللقاء تمّ التوافق على إعلان مصالحة بين مدينتي مصراته وبرقة. بهذه التحركات يحاول رئيس مجلس الدولة الجديد فتح خط مع رئيس مجلس النواب، الذي شابت علاقته مع قائد الجيش حفتر بعض التوترات خلال الفترة الماضية.
المبعوث الدولي إلى ليبيا غسان سلامة وصل إلى قناعة مشابهة في مضمونها لما توافق عليه كل من عقيلة صالح وخالد المشري، وهي قناعة مفادها أن اتفاق الصخيرات السياسي بات في حكم "الميت إكلينيكياً"، ولم يعد صالحاً للتطبيق على المستوى العملي، ولذلك بدأ في سلسلة من الخطوات الميدانية، مستفيداً من تراجع حدة العنف والعمليات الإرهابية بشكل عام، فكثفت بعثة الأمم من دعمها لمفوضية الانتخابات، التي أنهت منذ أيام عمليات تسجيل أسماء من يحق لهم التسجيل في الخارج، وهو ما يدعم الرؤيا الأممية في ما يتعلق بالمسار الانتخابي المقبل، والتي تتلخص في ضرورة البدء بشكل عاجل في الانتخابات البلدية، بالتوازي مع إقرار قانون الانتخابات، وقانون ينظم عملية الاستفتاء على الدستور، ومن ثم إجراء الانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية.
كما بدأت البعثة الأممية في التجهيز لجلسات تشاوريه للملتقى الوطني الليبي للاتفاق على الرؤية المستقبلية للحل السياسي في ليبيا، وهي جلسات ستعقد في عدة مدن ليبية، وربما في عواصم إقليمية، وفي هذا الإطار بدأت البعثة الأممية في سلسلة من الحوارات مع التشكيلات المسلحة كافة، وكذلك مع زعامات محلية في مدن بنغازي وزواره وغريان وبوسليم، تمهيداً للملتقى الوطني الليبي المقبل.
على المستوى الميداني في سبها ودرنة، فقد استمر اشتعال الموقف الميداني في الجنوب الليبي بشكل عام، ومحيط مدينة سبها بشكل خاص، حيث استمرت الاشتباكات على الرغم من مبادرات وقف إطلاق النار التي أعلنتها كل من لواء المشاة السادس المنضوي تحت قيادة الجيش الوطني، ومجلس قبائل التبو، وعلى الرغم من الاجتماعات التشاورية التي تتم في العاصمة النيجرية بين وجهاء من قبائل التبو وأولاد سليمان والطوارق، بدعوة من حكومتي فرنسا والنيجر.
الاشتباكات تصاعدت بين قبيلتي أولاد سليمات والتبو في مناطق حي الطيوري والقرضة ومحيط قلعة سبها والمركز الطبي للمدينة ومناطق قرب مدخلها الجنوبي. كما صدّت قوات اللواء السادس هجومين من عناصر المعارضة التشادية على بوابة معسكر اللواء وقرب مقر الإمداد العسكري. استمرت كذلك عمليات خطة "فرض القانون" التي أعلنها الجيش الوطني في جنوب البلاد، حيث تمّ تنفيذ طلعات مستمرة لاستطلاع محيط مدينتي سبها والجفرة انطلاقاً من قاعدة براك الشاطئ الجوية، وبدأ القائد الجديد لمنطقة الكفرة العسكرية في تنفيذ عمليات تفتيش وتحقق من هويات وتصاريح إقامة الأجانب في مناطق الجنوب الليبي. كما تمكنت كتيبة سبل السلام التابعة للجيش الوطني من تحرير خمسة سائقين تمّ اختطافهم في منطقة سيف البرلي جنوبي الكفرة من قبل عناصر تابعة للمعارضة السودانية، بمبادلتهم بعنصرين سودانيين.
وفي السياق، أعلنت رئاسة الأركان التابعة للمجلس الرئاسي في العاصمة طرابلس،عن عملية "عاصفة الوطن" العسكرية في جنوب البلاد، والتي تستهدف تتبع عناصر تنظيم داعش في المنطقة الممتدة من البوابة 60 شرقي مدينة مصراتة مروراً بضواحي مدن بني وليد وترهونة ومسلاتة والخمس وزليتن، بمشاركة وحدات من قوات مكافحة الإرهاب، وبدعم جوي من قاعدة مصراتة الجوية. وقد كان لافتاً تعرض أرتال تابعة لهذه العملية لعدة غارات جوية من طائرات تابعة للجيش الوطني الليبي جنوبي منطقة السدادة التي تبعد نحو 80 كم شرقي مدينة مصراتة.
أما في ما يتعلق بعمليات مدينة درنة، فقد اكتملت بشكل كبير التعزيزات العسكرية المتدفقة على محاور الهجوم الخمسة شرقي وغربي وجنوبي المدينة، وكان آخرها وصول وحدات من القوات الخاصة ومن قوات الردع من أجدابيا، ووحدات أخرى تابعة للكتيبة 106 مشاة التي يقودها نجل قائد الجيش الوطني. كذلك استمرت عمليات التراشق المدفعي مع عناصر مجلس شورى مجاهدي درنة في مناطق الظهر الحمر والحيلة في المحور الجنوبي، إلى جانب مناطق وادي الناقة وحجاج تمسكت في المحور الغربي.
تصريحات قائد الجيش خلال زيارته لمقر قيادة غرفة عمليات عمر المختار في عين مارة جنوبي غرب درنة، حول فشل كافة المحاولات لحل وضع درنة سلمياً، تشير إلى أن ساعة بدء الهجوم باتت أقرب من أي وقت مضى.
بالإضافة إلى درنة وسبها، شهدت مناطق أخرى تحركات عسكرية ميدانية، ففي طرابلس تعرضت مفوضية الانتخابات لهجوم انتحاري مزدوج أستهدف مكاتبها، وتجددت كذلك الاشتباكات بين الميليشيات المحلية في المدينة، مما أدى إلى أضرار في مطار معيتيقة، كما تمّ اعتقال أحد عناصر داعش في قرية العامرة شرقي سرت، ونفذت وحدات الجيش الليبي عدة عمليات تفتيش جنوبي مدينة أجدابيا، نتج عنها اعتقال شخصين ومصادرة كميات من المتفجرات والذخائر في عدة مزارع.
على مستوى الأدوار الخارجية، لوحظ نشاط كبير للدور الروسي في الأزمة الليبية، حيث زار المفوض بحقيبة وزارة الخارجية في حكومة الوفاق العاصمة الروسية، وعقد مباحثات مع نائب وزير الخارجية الروسي. كما عقد قائد الجيش الوطني حفتر مباحثات بالفيديو مع وزير الدفاع الروسي، وتمّ تسجيل عدة تصريحات خلال هذه الفترة لرئيس مجموعة الاتصال الروسية حول ليبيا، أكد فيها أن رهان موسكو ليس على شخص واحد، وأنها على استعداد لعقد حوار بين المشير حفتر ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج.
الملف الليبي كان السبب الرئيسي في إشعال فتيل التوتر بين الجزائر وفرنسا على خلفية الضغوط التي تمارس على الجزائر لفتح مدنه الحدودية لاستقبال اللاجئين من ليبيا، وهو توتر كانت من أبرز نتائجه تصريحات السفير الفرنسي في الجزائر حول إلغاء تأشيرات دخول إلى فرنسا خاصة بمسؤولين كبار في الحكومة الجزائرية، بحجة أنهم يستخدموها للعلاج بصفة "مهاجرين". هذا الوضع دفع بالجزائر لزيادة تعزيزاتها العسكرية على حدودها مع ليبيا، وفتح قناة تنسيق مشتركة مع مصر حول الملف الليبي.
توتر مشابه شاب العلاقات الفرنسية الإيطالية، على خلفية الدور الفرنسي في تراجع النيجر عن موافقتها السابقة بتمركز نحو 400 جندي إيطالي على أراضيها، وكذلك رفض تونس الانضمام إلى غرفة عمليات مشتركة مع حلف الناتو حول ليبيا.