إسرائيل في حربها على غزة كما في كل حروبها لم تميز بين مدني وصحافي وعسكري أو رجل وامرأة وطفل، كلهم كانوا في دائرة الاستهداف. حقيقة يدركها الزميل أحمد شلدان جيداً. حقيقة ربما كانت الدافع وراء كتابته لوصيته وإرسالها لزوجته.
لم
تترك لنا الحرب أي مشهد لننسجه في خيالنا، حولت المشاهد إلى حقيقة وتركت لنا حرية
التعليق. ولعل أبلغ تعليق في ساحة الحرب هو أن تصف ما تراه عيناك وما تسمعه أذناك
فقط، ولكن يمكن لما تراه عيناك أن يكون أماً فقدت ابنها، أو طفلاً رصده صاروخ وهو
يلهو على الشاطيء، ويمكن لما تسمعه أذناك أن يكون خبراً عن قريب لك استشهد أو منزل
لك دمر. هذا ما عاشه مراسلو
الميادين في غزة الزملاء لنا شاهين وأحمد شلدان وأحمد
غانم. في الذكرى الثانية للعدوان الإسرائيلي على غزة يستذكر الزملاء حوادث احتلت مكانها
في الذاكرة، ولحظات تجذرت في ناحية القلب، ومواقف مؤثرة لم يكن بالإمكان تجنبها
حتى على الهواء مباشرة.
في
ذلك اليوم من أيام العدوان كانت الزميلة لنا شاهين تتحضر كعادتها لتنقل ما يجري
على أرض غزة ضمن تغطية ظلت مفتوحة طيلة الليل والنهار منذ لحظات العدوان الأولى.
قبل ذلك بقليل عاشت ما تعتبره اللحظة الأكثر إيلاماً لقلبها. تستحضر لنا
تلك اللحظة. "كانت والدة شهيد تشد على يدي إثر التعرف إلى جثمان ولدها بعد أن
كانت تحسبه مصاباً، صوت الزميلة راميا كان يتردد في أذني "لنا أنت على الهواء".
تقول "اضطررت لسحب يدي بسرعة لتلتقي عيناي بعيني أم الشهيد، حينها فقدت
السيطرة على أعصابي وانهرت باكية".
رسخت
الحرب صور المجازر في ذهن مراسلي
الميادين في غزة. أكثر موقف لا تنساه الزميلة لنا
هو لحظة دخولها حي الشجاعية في أول هدنة انسانية. "لن أنسى ما حييت ليس مشهد
الدمار الذي تعجز أفلام الخيال عن تصويره فحسب بل أيضاً رائحة الموت التي لا أزال
كلما ذكر الموت أمامي أراها تجتاح حاسة الشم عندي لتذكرني بتلك اللحظات، وبالطبع
فانها لا تزال أول ما يداهمني من شعور كلما دخلت حي الشجاعية حتى يومنا هذا".
هناك
في حي الشجاعية الذي كانت كاميرا
الميادين أول من دخل إليه مع الساعات الأولى
لسريان الهدنة وقف رجل ينادي على أبنائه بصوت عال والدموع تملأ عينيه. "دموع
لم ولن أنساها وهو يعلم علم اليقين أنهم ارتقوا شهداء، راح يردد روحي فداء لفلسطين".
من
الشجاعية إلى شاطئ غزة تنقّل لنا ذاكرتها. تستعيد مشهد قصف أطفال ذنبهم الوحيد
أنهم كانوا يبحثون في رمل الشاطيء عن فسحة من الأمل. كانت لنا آنذاك على
الهواء مباشرة. تروي تفاصيل ما حدث "كنت أقف على سطح المكتب من بناية تطل على
شاطئ بحرغزة، سمعت صوت قصف وكأنه يستهدف المكان الذي أقف فيه. استدرت بشكل لا
إرادي لأستطلع الموقف ورأيت الدخان كان لا يزال يتصاعد من رمال الشاطئ وأشلاء
الأطفال متناثرة في كل مكان، فيما آخرون لا يزالون أحياء يركضون إلى ما يعتقدون
أنه مكان آمن، ثم يستديرون عائدين لتفقد إخوتهم الذين مزقهم جيش الاحتلال بقذائفه".
إسرائيل في حربها على غزة كما في كل حروبها لم تميز بين مدني وصحافي وعسكري أو رجل وامرأة وطفل، كلهم كانوا في دائرة الاستهداف. حقيقة يدركها الزميل أحمد شلدان جيداً. حقيقة ربما كانت الدافع وراء كتابته لوصيته وإرسالها لزوجته. يقول أحمد "إن التواصل مع الأهل إقتصر على الهاتف والإطمئنان بين الحين والآخر" كان حريصاً على "سماع دعوات والدته ووالده وكذلك توديع زوجته وأطفاله".
في اليوم الثالث للعدوان وأثناء تغطيته المباشرة لم يكن الخبر الذي ورد أحمد كما الأخبار الأخرى، كان معنياً به بشكل مباشر، استشهاد ابن عمه الذي ودعه على عجالة في أحد ثلاجات الموتى قبل أن يعود إلى الشاشة مرة أخرى، "حبيس الدمع والألم مودعاً رفيق درب".
اللحظة الأصعب بالنسبة لشلدان هي عدم تمكنه من مغادرة العمل بعد استهداف بيته واضطراره للبقاء في مكتب الميادين حتى عزم أمره ذات يوم على زيارة زوجته وأطفاله وأمه وأبيه "فكان اللقاء الصعب مع زوجتي وكذلك اللقاء الأصعب مع أمي التي لم تصدق عينيها وانهالت على قدماي تقبلهما بحرارة".
أما الزميل أحمد غانم فتحول في أحد أيام تلك الحرب الوحشية من ناقل للخبر إلى الخبر نفسه بعد أن استشهد شقيقه محمد شرق رفح. يروي بعضاً من طقوس فرضتها الحرب. يقول "كنت أغامر أحياناً أستقل سيارة أجرة بسرعة البرق لمنزل العائلة لأرتمي في حضن والدتي وأقبل جبين والدي أسلم على إخوتي الصغار" لكن "سرعان ما يرن الهاتف للعودة والمتابعة".
لحظة إعلان انتهاء الحرب وبدء سريان وقف إطلاق النار لها تفاصيل أخرى مع مراسلي الميادين في قطاع غزة. يقول الزميل أحمد غانم عن اللحظة التي لم يكن يتوقعها "كانت مفرحة على الرغم من الدمار وأعداد الشهداء والجرحى والمشردين. نزلنا إلى الشوارع رصدنا فرحة الناس بهجة الانتصار وفرحة الصمود أمام كل ما حصل".
أما الزميل أحمد شلدان فيقول "جميل أن ينتهي القتل وأن ينتهي التدمير وهذا كان أملنا جميعاً ولكن الصعب هو أن يتم الإعلان عن انتهاء العدوان لحظة وقوفي فوق أنقاض منزل عمي الذي دمر في الساعات الأخيرة من العدوان، اللحظة كانت فارقة حتى في التغطية فقد خرجت الاحتفالات لتعم شوارع غزة وخرجت السيارات محتفلة والمساجد مكبرة".
الزميلة لنا شاهين التي كانت على الهواء مباشرة تروي كيف أن "الناس نفروا من كل حدب وصوب، يصرخون ويهتفون ليس لأنهم قد انهكوا من الحرب وليس لأنهم كانوا من الناجين ولكن لشعورهم بالزهو رغم كل الخسائر في الأرواح والممتلكات". "آمنوا بأنهم منتصرون بشكل أو بآخر وفخورون بمقاومة قلبت الموازين وغيرت قواعد معادلة الردع الاسرائيلية".