تدفع الصحافة المصرية ثمن تدجين الفضاء العام، بحيث لم يترك لها القدرة على المشاركة في صناعة أي تغيير مستقبلي. ولذلك فإن عدداً هائلاً من المصريين، يدشن فضاءه البديل على الشبكة العنكبوتية ولو أن لهذا عواقب وخيمة أيضاً.
الحذرون. الصامتون. أولئك
البعيدون من العيون قدر ما أمكنهم ذلك، هم في الغالب من يؤول إليهم سوسُ البلاد والعباد
جهاراً أو من خلف ستار. في مصر، قبل ست سنوات من اليوم، كانت الساحات ملأى
بالمفوّهين الذي يلهبون الحشود لكسر حاجز الخوف من موت بالرصاص أو بالدهس، أو حتى باعتقال
سيفضي بأهله إلى معاينتهم للزمن في توقفه.
لم تكن "25
يناير" إبنة ساعتها. الحراكات الكبرى تراكُمٌ من أخريات سابقة عليها. في مصر،
لم تتوقف الوقفات والتحركات وإن خلت نسبياً من الاحتجاج الاجتماعي، ليظل موضوعها الإصلاحات
السياسية وأبرزها رفع قانون الطوارىء وتوسعة هامش الحريات.
طوال تلك السنوات، لم تكن
الصحافة المصرية في منأى عما يشهده الفضاء العام. هذا لا يستتبع أي حكم قاطع بدور
إيجابي أو سلبي للصحافة آنذاك. فالإعلام المصري المتشظي بين قطاعين عام وخاص، قليلاً
ما تمتع بعض أهله بمساحة بين أن يكونوا سعاة بريد للحكومة في مقارباتها كافة، أو أداة
لمناورات أصحاب رؤوس الأموال وما يتطلبه تشابك علاقاتهم. من اختص لنفسه بموقع
مستقل اختبر ثمن ذلك.
استطاعت السنة الأولى لثورة
يناير أن تجترح هامشاً مقبولاً لحرية التعبير، مدعومة بدخول الإعلام الاجتماعي على
خط النقاشات المتعلقة بالطموحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تلك الفترة
غصّت بالإعلاميين المتطهرين من الماضي، قبل أن تعود الأمور إلى نصابها، ويرجع كل منهم إلى مكانه.
بعد ست سنوات على 25 يناير،
يبدو المشهد الإعلامي المصري في أسوأ أحواله. فراغ العمل الصحفي سابقاً من الهمّ
الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي، الذي كان يتطلب توجيه أصابع الاتهام لمنظومة سياسية
كاملة، جعل الصحافة أقل من أن تقلق راحة السلطات، إلا ما ندر. إلا أن الإعلام الاجتماعي
فرض على الصحافة تحولاً في شكل عملها، ليس بالمواكبة التقنية فحسب، بل بالوعي بدورها
الذي يكاد ينتفي إذا لم تلعب حقاً دور المراقب وما يتطلبه ذلك من إطلاع الرأي
العام على المعلومة وإشراكه في النقاش بشفافية.
لكن هذا كان ثمنه غالياً. الاستفادة
من هامش الحرية النسبي، جعل الصحافيين في صِدام مباشر مع كل من تناوب على السلطة
منذ خلع مبارك بدءاً بالمجلس العسكري، وصولاً إلى الرئيس مرسي ثم المرحلة الانتقالية
حتى تسلّم الرئيس السيسي لمقاليد الحكم.
ترزح الصحافة المصرية
اليوم، تحت وطأة ما تعمل السلطات على تحقيقه. إلقاء "الحُرُم" على كل ما
يمكن تصنيفه انتقاصاً من "هيبة" الدولة (الحاكم) والجيش، ثم تدجين الاحتجاج
بتحويله إلى تظلّمات فردية أو استعراض فولوكلوري، سيتوقف ما إن يخرج الرئيس بالوعود،
وهي بالمناسبة، كثيرة.
التوجه في جعل المجال العام
خاضعاً كلياً لسلطان أجهزة الدولة الرقابية والتأديبية، ملّك الأخيرة منذ وقت
قريب، ولأول مرة، حق اقتحام نقابة الصحافيين والقبض على ثلاثة من قيادييها بتهم
شتى. كان الأمر عقاباً على الرمزية التي اكتسبتها النقابة تاريخياً في كل محطات الاحتجاج
السياسي. وما يفهم، من تصريح لمقرّر لجنة الحريات في النقابة خالد البلشي وهو أحد
الموقوفين، يصبّ في سياق النيل من تلك الرمزية والتلويح باليد الطولى لأجهزة
الدولة. فقد حصل الاقتحام والاعتقال بعد قيام عدد من الصحافيين بوقفة احتجاجية ضمت
حقوقيين وناشطين ضد قرار التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير.
غالباً ما نظرت الحكومة المصرية إلى النقابة بوصفها درعاً وظيفته كشف
"المؤامرات". ولذلك لم تحتمل أن تضطلع النقابة بدورها الطبيعي كجزء من
الفضاء العام الذي تصاغ فيه الرؤى لما فيه المصلحة العامة، وأن تقوم بأبسط أدوارها
تجاه من هم في كنفها. الدفاع عن الصحافيين الذين وصل عدد المسجونين منهم عام 2016
إلى ما يفوق 29 صحافياً، بتهم قلب نظام الحكم والانضمام لحركة الاخوان التي تصل
الأحكام فيها إلى الإعدام، فضلاً عن الاختفاء القسري الذي طال صحافيين وناشطين. من
هؤلاء الناشطين شيماء صباغ في حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، التي
ألغي
الحكم بسجن ضابط الشرطة المسؤول عن قتلها، رغم كل القرائن التي تؤكد قتلها
عمداً (بحسب شهادة
زميلها في المسيرة لوضع الزهور على نصب الشهداء
التذكاري بميدان التحرير). وكان تقرير الطب الشرعي قد أكد أن موت صباغ حدث نتيجة "نحافتها"!
أما الانتهاكات اليومية بحق
الصحافيين فليست أقل سوءاً من السجن والإخفاء. ففي تقرير أصدرته النقابة في شباط
2016، أكدت فيه أن الصحافيين المصريين تعرضوا خلال عام 2015، لأكثر من 782
انتهاكاً جاء معظمها من وزارة الداخلية (البديل القمعي الذي أسّسه مبارك نتيجة
ريبته من الجيش). وقد تنوّعت هذه الانتهاكات بين "السجن والحبس الاحتياطي
والتوقيف، واقتحام المنازل للقبض، وتلفيق التهم، وإصدار أحكام شديدة القسوة والمنع
من مزاولة المهنة وتكسير المعدات، مع تعسف واضح ضد كل محاولة لرصد الانتهاكات".
حاولت نقابة الصحافيين
الوصول إلى قانون ينزع أية شرعية قانونية عن هذه الانتهاكات. لكنها حتى الساعة لم
تصل إلى مبتغاها. فالقانون تحوّل إلى قانونين، لن يفعلا سوى تثبيت الهوة بين
الإعلامين الرسمي والخاص، فضلاً عن الصحافة الإلكترونية التي لم تجد لها مكاناً
معرضة أصحابها لشتى صنوف التعسف. فالقانون المطروح من قبل النقابة سيفرض ضمّ
الصحافيين جميعهم إلى جسم معنوي وقانوني واحد، بحيث تسري عليهم الواجبات نفسها،
كما يتمتعون بالحقوق نفسها، وأولها منع حبسهم.
لا ينفصل وضع الصحافة
المصرية عن الواقع السياسي. هو جزء منه، لكنه على أهميته ودوره، يبقى في المرتبة
الأولى لقياس حرية التعبير السيئة في البلاد، حيث مقص الرقيب يعمل براحته، فيوقف
بث برامج ويصادر صحفاً ويبدل في مضمون الأخبار والمقالات. تدفع الصحافة المصرية
ثمن تدجين الفضاء العام، بحيث لم يترك لها القدرة على المشاركة في صناعة أي تغيير
مستقبلي. ولذلك فإن عدداً هائلاً من المصريين، يدشن فضاءه البديل على الشبكة
العنكبوتية ولو أن لهذا عواقب وخيمة أيضاً.