تفجيرات أحد الشعانين .. إستراتيجية داعش الأخيرة

منذ حقبة سبعينيات القرن الماضي، والتي شهدت موجة من الإشتباكات الطائفية والأحتجاجات الشعبية في الفترة من عام 1972 وحتى 1981، كان واضحاً أن مفتاح إشعال الأوضاع الداخلية في مصر لا يخرج عن محورين هما المحور الإقتصادي والمحور الطائفي.
  • تفجير في كنيسة بمدينة طنطا بأحد الشعانين
أحداث مثل اشتباكات الخانكة والزاوية الحمراء بين المسلمين والأقباط عامي 1972 و1981، والأشتباكات التي تلت هذه الفترة خلال حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك كانت مثالاً على ما يمكن أن ينتج عن اللعب على الوتر الديني في مصر والذي تعدد اللاعبون عليه في هذه المرحلة. 


يأتي استهداف تنظيم داعش للكنائس المصرية في هذا السياق ولكن بازدواجية في الأهداف ما بين الأهداف القريبة والأهداف البعيدة.

كان الاستهداف الأول للكنائس المصرية بعبوات ناسفة في أيار/ مايو 2010 حين تم العثور على قنبلتين محليتي الصنع انفجرت إحداهما خارج كنيسة العذراء في منطقة حلمية الزيتون القاهرية، تلا ذلك تطور كبير تمثّل في تفجير كبير تعرضّت له كنيسة القديسين في منطقة سيدى بشر بمدينة الأسكندرية أول أيام عام 2011، أسفر هذا التفجير عن أكثر من 20 شهيد وعشرات الجرحى ولم تتضح إلى الأن الجهّة المنفّذة له في ظل تعدد الجهات التي تم اتهامها بالمسؤولية ومنها تنظيم جيش الأسلام الفلسطينى وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذى كان حينها قد هدد الأقباط في مصر بعد أن هاجم كنيسة سيدة النجاة في العاصمة العراقية في تشرين الأول/ اكتوبر 2010.


بعد تولي الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي لمنصبه، دخلت عمليات استهداف الأقباط في مصر بمرحلة تصاعدية وصلت إلى ذروتها عقب ثورة 30حزيران/ يونيو 2013 وعزله وفضّ إعتصام أنصاره في ميداني رابعة العدوية والنهضة. 


خلال فترة حكمه تعددت الهجمات على الكنائس المصرية، منها الهجوم المسلح على حفل زفاف أمام كنيسة بمنطقة الوراق في القاهرة، وعدة محاولات للهجوم على الكاتدرائية المرقسية بمنطقة العباسية. تصاعدت هذه الموجة بشكل حاد عقب 30 حزيران/ يونيو ونتج عنها إجمالاً حرق ومهاجمة أكثر من 70 كنيسة في مختلف محافظات الجمهورية، بجانب عشرات المنازل والمحال التجارية العائدة لأقباط.


تلت هذه الموجة فترة من الهدوء بعد تولي الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي لمنصبه. لكن عاد مسلسل الهجمات مرة أخرى بتفجير إنتحاري تبناه للمرة الأولى تنظيم داعش واستهدف في كانون الأول/ ديسمبر 2016 قاعة الصلاة في الكنيسة البطرسية بمنطقة العباسية بالقاهرة، ما أسفر عن أكثر من 60 شهيد وجريح. 


وكان لافتاًً أن هذا التفجير جاء بعد نحو أسبوعين من تنفيذ حكم الإعدام على "عادل حبارة" المدان الرئيسي بارتكاب مذبحة رفح الثانية التي تمّ فيها قتل 25 جندي مصري.


حمل بيان داعش المصوّر لتبني العملية تهديداً واضحاً لأقباط مصر بأن أستهدافهم سيكون أولوية لدى التنظيم، وكان واضحاً في تركيز التنظيم في المناطق المتبقية لتحركاته ما بين مدينتي الشيخ زويد والعريش على السكان الأقباط وأستهدافه لهم سواء بالقتل أو الترويع لدفعهم الى مغادرة منازلهم. 


أكدت التفجيرات الإنتحارية الأخيرة والتي طالت كنيسة مارجرجس بمدينة طنطا وكنيسة مارمرقص بمدينة الأسكندرية لتؤكد تغير توجهات التنظيم الذي يواجه منذ أوائل العام الماضي ضربات موجعة ومتتالية من الجيش المصري في شمال سيناء.

استهداف الكنيستين كان في توقيت شبه متزامن، في حالة كنيسة الأسكندرية لم يتمكن الإنتحاري من الدخول إلى داخل مبنى الكنيسة الذي تتولى الشرطة حمايته من الخارج فقط، ساهم في هذا تصدي أحد ضباط الشرطة له بعد أن طلب منه المرور من البوابة الإلكترونية ومن ثم أشتبه فيه وحاول الهجوم عليه إلا أنه قام بتفجير نفسه. 


ولعل مدير أمن الأسكندرية كان من أهم أسباب فشل هذا الهجوم بعد أن أمر بنقل البوابات الإلكترونية إلى خارج مبنى الكنيسة أثناء زيارته لها قبل نصف ساعة من حدوث الهجوم. 


بالنسبة لكنيسة طنطا كان الوضع أسوأ بكثير، حيث تمكّن الأنتحاري "حسب رواية بيان داعش" من الدخول إلى قاعة الصلاة في الكنيسة وتفجير نفسه وسط المصلين، لكن وزارة الداخلية المصرية تقول إن الأنفجار تم بعبوة ناسفة وضعت في الصف الأول للمصلين. وبغض النظر عن طريقة التفجير إلاّ أن أختراق أمني كبير قد حدث في هذا الهجوم بالمقارنة بهجوم الأسكندرية وهجوم القاهرة أواخر العام الماضي.

نتج عن الهجومين حوالي 50 شهيد وأكثر من  جريح عدد كبير منهم بإصابات بالغة في الأطراف نتيجة احتواء العبوات الناسفة المستخدمة في الهجومين على كميات كبيرة من شرائح حديد التسليح. 


أعلن تنظيم داعش في نفس يوم الهجومين المسؤولية عنهما، وعلى أثرهما نفذّت مصر عدة اجراءات كان أولها إقالة مدير أمن الغربية نظراً للإختراق الأمني الكبير الذى تحقق، خصوصاُ وأن مدينة طنطا قد شهدت منذ أكثر من أسبوع عملية تفجير أستهدفت مركز تدريب تابع لوزارة الداخلية المصرية أعلنت مجموعة مسلحة مرتبطة بتنظيم الأخوان تسمى "لواء الثورة" المسؤولية عنه، كما أن شارع علي مبارك الذي تقع فيه الكنيسة تم العثور فيه على قنبلة هيكيلية تم إبطال مفعولها. 


عقب الهجومين أعلن الرئيس المصري عن إنفاذ حالة الطوارئ في عموم البلاد لمدة ثلاثة أشهر، وعن تشكيل مجلس أعلى لمواجهة الأرهاب والتطرّف بصلاحيات كبيرة، والدفع بقوات من وحدات الرد السريع والشرطة العسكرية وسلاح المظلات لمعاونة الشرطة المدنية في حماية المنشآت الحيوية.


الرابط واضح بين تغيير إستراتيجية داعش في سيناء وبين تفجيرات الكنائس المصرية، فنشاط التنظيم بعد سلسلة من العمليات العسكرية المستمرة للجيش المصري في شمل ووسط سيناء تضاءل بشكل كبير كما سبق وأضحنا في مادة سابقة، تقتصر عمليات التنظيم حالياً على القنص وتنفيذ عمليات الإعدام للمدنيين المتعاونين مع القوات الأمنية والعسكرية، ومحاولة دفع الأقباط لمغادرة العريش والشيخ زويد للترويج لفزاعة "تهجير الأقباط" التي تجد لها صدى لدى البعض في الداخل والخارج. 


هذا كان جلياً في الإصدارات المصوّرة الأخيرة لتنظيم داعش في سيناء والتي أقتصرت على تصوير نشاط أفراد "الحسبة" او ما يسمى الشرطة الإسلامية دون أي صور للمواجهات مع الجيش المصري. كما تقلصت حتى عمليات التفجير بالعبوات الناسفة والتي كانت تستهدف بشكل دوري أرتال الجيش المصري بعد أن باتت الطائرات دون طيار والعربات المقاومة للألغام من أساسيات التسليح المصري الذي يخدم في هذه المنطقة.


كان لافتاً بالأضافة إلى سرعة إصدار بيان تبني داعش لعمليتى الهجوم على كنيستي طنطا والأسكندرية، إصدار مجموعة "لواء الثورة" لبيان موازٍ يحمل الدولة مسؤولية هذه الهجمات، في محاولة لنفس الصلة بين هذه المجموعة وتنظيم داعش، وهذا تدحضه عدة مؤشرات منها حقيقة أن هذه المجموعة كانت المسؤولة عن هجوم مركز تدريب الشرطة في طنطا منذ أسبوع وهو ما يشير إلى تنسيق واضح على الأرض بين هذه المجموعة ومجموعات اخرى مثل "حركة حسم" وعناصر داعش لنقل الهجمات إلى الداخل المصري بدلاً من سيناء التي بات الضغط على عناصر داعش فيها مستمراً وقوياً. 


ولذلك لم يكن غريباً أن نجد أخبار عمليات هذه المجموعات ضمن إصدارات تنظيم داعش المصورة والمطبوعة والألكترونية في سوريا والمغرب العربي. الأكثر وضوحاً في هذا الصدد هو ارتباط هذه المجموعات بتنظيم الأخوان المسلمين، حيث تم ذكر قرية "البصارطة" في مدينة دمياط بأقصى شمال مصر عدة مرات في بيانات "لواء الثورة" وهي من أهم معاقل الأخوان في شمال مصر، كما نعى لواء الثورة وجماعة الأخوان في مصرعدّة مرات قتلى من أفراده اللواء تمت تصفيتهم بمواجهات مع قوات الأمن.


اذاً نستطيع أن نستخلص مما سبق أن تنظيم داعش يحاول نقل المعركة إلى الداخل المصري لتخفيف الضغط على عناصره في سيناء، وهي استراتيجية ينفذها أيضاً في العراق، لكن إذا نظرنا بشكل أوسع إلى توقيت وسياق هذه الضربات نستطيع أن نربطها بمواقف مصرية حالية ربما لا تحوز على رضا قوى إقليمية ودولية، الضربات جاءت عقب عودة الرئيس المصري من الولايات المتحدة في زيارة كان عنوانها الرئيسي هو مكافحة الأرهاب ودعم مصر وجيشها، وعنوانها الثانوي الملف السوري.


 الضربات تأتي قبل زيارة مرتقبة لبابا الفاتيكان إلى القاهرة أواخر الشهر الجاري، وتأتي في ظل محاولات مصرية مستمرة لإعادة السياحة إلى مستوياتها السابقة خصوصاً مع قرب بدء الموسم الصيفي. الضربات تأتي في ظل موقف مصري هو الأوضح عربياً من الغارات الأمريكية على قاعدة الشعيرات الجوية في سوريا، وفي ظل موقف مصري ثابت وواضح من الملف السوري بشكل عام عنوانه "الحفاظ على وحدة سوريا ودعم جيشها الوطني لمحاربة الأرهاب". 

وفي ظل دعم مصري مستمر للجيش الوطني الليبي ودعم مرتقب للجيشين الليبي واللبناني. لا يمكن فصل هذه المواقف عن سياق التفجيرات الأخيرة التي يراد من خلالها إيصال رسالة "طائفية" تروّج لما كان يكرر في تسعينيات القرن الماضي عن "اضطهاد الأقباط" في مصر، للتغطية على الواقع الميداني الجيد والمتحسن باستمرار في سيناء، وإيصال رسائل من دول أقليمية تحاول منذ عام 2013 تحويل مصر عن مسارها الذى أتخذته داخلياً وأقليمياً.

تماسك الجبهة الداخلية في مصر، واكتشاف أوجه القصور الأمني على ضوء نتائج الضربات الأخيرة هو الفيصل في تحديد مدى تأثر مصر من هذه الهجمات، لكن ستبقى حقيقة واحدة مهمة في هذا الصدد تتعلق بمن يدعم ويساند من قتلوا أبناء الجمعة والأحد ولم يمسوا أصحاب السبت بأي سوء. 


الرئيس المصري كان واضحاً في كلمته الغاضبة عقب التفجيرات بأنه "لابد من محاسبة الدول الداعمة للأرهاب"، وهو هنا قطعاً يقصد دولاً إقليمية بعينها.. وهذا هو مربط الفرس في كل ما يحدث في سوريا وليبيا والعراق ومصر.

المصدر: الميادين