تمرّد مالي بريطاني على واشنطن
هل هو أول عصيان بريطاني على الولايات المتحدة منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956؟ سؤال يطرح نفسه بعد قرار بريطانيا الإنضمام إلى بنك آسيوي تؤسسه الصين،مما يطرح أسئلة حول تشكيل هذه الخطوة نهاية للنظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
تمرّدت بريطانيا أخيراً وقررت الإنضمام إلى بنك تنمية آسيوي تؤسسه الصين، فهل تشكّل الخطوة نهاية النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل يصبح خاتمة لكل ما تمخضت عنه معاهدات بريتون وودز؟
الأميركيون يستشيطون غيضاً من القرارات الإنتهازية البريطانية. ويستشعرون أن الخطر يتهدد نظامهم القائم على دعم عالمي غير محدود لرفاهيتهم وإسرافهم غير المحدودين.
كان من الطبيعي أن تسعى الصين لريادة العالم إقتصادياً بعد تحليق شركاتها عاليا وطغيان تجارتها على كل ما عداها. وهذا من حقها. فهي صاحبة أكبر الأسواق وأرخص المنتجات والمراكز الصناعية العالمية.
وهي تتمتع بإحتياطي نقدي يزيد على ستة تريليونات دولار.
وفي المقابل تعاني الولايات المتحدة من مديونية تزيد على ١٨ تريليونا من الدولارات. وفي الحساب السكاني، لا تجوز المقارنة بين الدولتين ـ ١.٤ مليار صيني أصيل في مقابل أدنى من 320 مليون أميركي مختلطين.
لم يصدّق الرئيس الأميركي أن بريطانيا ستتخذ قراراً كهذا. فهي الدولة التي سارت بحماية الولايات المتحدة وتحت مظلتها منذ تهديد الرئيس دوايت أيزنهاور بجعل الجنيه الإسترليني يصبح صفرا إذا لم تسحب لندن قواتها من مصر عام ١٩٦٥.
آنذاك تصرفت بريطانيا دون تشاور مع السيد الأميركي. وشنّت مع إسرائيل وفرنسا حربا لتحتل سيناء وقناة السويس من دون إخطار الولايات المتحدة التي كانت تدعم إعادة بنائها بعد الحرب الثانية. عندها تلقت بريطانيا الدرس، ولم تجرؤ على إتخاذ أي قرار بعدها يخالف الإرادة الأميركية. لكن الأوضاع تبدلّت بعد أن شاخت الإمبراطورية الأميركية.
قررّت بريطانيا المشاركة في تأسيس "بنك آسيا " للإستثمار في البنى التحتية (الأساسية) الذي تعمل الصين على إنشائه. وبذلك تكون الدولة الأولى في مجموعة السبع التي تود الإنضمام إلى هذا المشروع في تشرين الأول/ اكتوبر المقبل.
ونقلت الصحافة الأميركية والبريطانية أن الرئيس الأميركي باراك أوباما وجّه تأنيباً نادراً لبريطانيا على قرارها الذي يتجاهل كل المساعي الأميركية لدى الحلفاء من أجل منع التعامل مع المؤسسات المالية التي ترعاها الصين لما يمكن أن تشكله من تقويض لهيمنتها على النظام المالي العالمي. ووهذا النظام بات يخضع بكامله للقوانين الأميركية بحيث أن المصارف السويسرية والفرنسية والبريطانية فضلا ًعن الأميركية، باتت تدفع غرامات بعشرات مليارات الدولارات فقط جرّاء مخالفة عقوبات تفرضها واشنطن أحادياً على دول مثل إيران و سوريا وكوريا وروسيا.
بالطبع بريطانيا لا تفعل ذلك إنطلاقا من طهارة سياسية، لكنها لا تريد أن تكون من الخاسرين عندما تتبدل الخرائط المالية. ولقد كسبت خبرة عالية في تبديل الأشرعة منذ خسارتها الولايات المتحدة التي كانت إحدى مستعمراتها قبل بضعة قرون.
صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية نقلت عن مسؤولين أميركيين غضبهم من أن بريطانيا لم تتشاور مع الولايات المتحدة حول المساهمة في المؤسسة المالية الصينية.
ونقلت عن أحد كبار المسؤولين في واشنطن قوله، "سئمنا من التكيّف المستمر في السياسة البريطانية مع أهواء الصين، فهذا الأسلوب ليس الأفضل للتعاطي مع قوة صاعدة"، وكان المقصود بذلك تمنّع بريطانيا عن إنتقاد السياسة الصينية في أحداث هونغ كونغ الإحتجاجية. وعندما صعّدت واشنطن حملتها على بيجينغ بشأن التيبت ووقفت مع الدالاي لاما، كان موقف بريطانيا مواربا.
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومعهما بنوك التنمية الإقليمية الأخرى، كانت أدوات فعّالة في يدّ الإمبراطورية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لا أحد يستطيع تمويل مشروع تنموي أو إنقاذ إقتصاد من الإنهيار المالي من أموال تلك المؤسسات إذا لم يكن يرضي الإدارة أو الكونغرس الأميركيين. وعندما تسعى الصين إلى إيجاد مؤسسات مالية موازية، فإنها عن عمد توّد كسر الآحادية التي مارستها واشنطن في هيمنتها التامة على كل مفاصل النظام المالي العالمي، هيمنة باتت مطلقة بعد عام ١٩٧١ عندما حلّ الدولار الورقي محل الليرة الذهبية.
وتضاعفت الهيمنة في العقود الأخيرة بعد فرض القوانين الوطنية الأميركية على الكتل المالية المختلفة وإنهاء السرية المصرفية بشكل شبه تام. كذلك فإن نفوذ الولايات المتحدة قويّ على معظم دول محيط المحيط الهادئ، وعلى المصارف الإقليمية من خلال المؤسسات المالية. وكانت هذه السياسة التحكمية وراء تمرّد وتحدي دول مثل كوريا الشمالية حيث لجأت بيونغ يانغ إلى إنتاج السلاح النووي بعد أن ضيّقت واشنطن الحصار عليها إلى حد تجميد مبلغ لا يزيد على ٢٥ مليون دولار في أحد المصارف الآسيوية.
إستراتيجية الصين المالية لا تتوقف عند تأسيس بنك آسيا للإستثمار في البنى التحتية. فهي وقفت أيضا وراء تأسيس بنك التنمية التابع لمجموعة ب"البريكس" (البرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا). وكذلك فإنها تمول صندوق درب الحرير البالغ ٤٠ مليار دولار. وهذا المشروع يرمي إلى تعزيز التكامل بين دول وسط آسيا. والصين التي ضاعفت ميزانيتها الدفاعية تساعد العديد من الدول في أفريقيا وأميركا اللاتينية من أجل وقف إرتهانها للإرادة الأميركية. فهي تموّل مشروع قناة نيكاراغوا التي ستنافس قناة بنما من حيث العرض الذي يبلغ ثلاثة أضعافا، ومن حيث تقصير المسافة، كونها أقرب إلى المكسيك والولايات المتحدة من قناة بنما. إزاء كل هذا لم تستطع الإدارة الأميركية إجتراع إدارة بريطانيا ظهرها لها في مشروع بهذه الجسامة والحساسية والأهمية الإستراتيجية.
وعبرّت بريطانيا عن المزيد من التجاهل من خلال تخفيف ميزانيتها الدفاعية إلى ما دون ٢ في المئة المطلوبة كحد أدنى من دول الناتو. وهي خطوة تأتي في وقت تتراكم الأعباء المالية الحربية على الحلف الذي يواجه تحديا روسيا يمتد من جورجيا إلى السويد.
المؤلم للجانب الأميركي في التحدي البريطاني أن دولا مثل أستراليا ونيوزلندة اللتان ترتبطان عضويا بحوض المحيط الهادي لم تعد تشعر بحرج إذا حذت حذو لندن. كان الأمر سيكون صعبا لو أنها أرادت القيام بذلك إنفراديا. ثم أن دولا مثل تايوان وكوريا الجنوبية واليابان ستضطر لمراعاة مصالحها الإقليمية بناء على حسابات أكثر إستقلالية. وكما كان العالم لا يستطيع الإفلات من القبضة المالية الأميركية، فإن الدول لا تستطيع في هذا الوقت تجاهل السوق الصينية.
قرار بريطانيا ينطلق من رؤية إقتصادية إنتهازية بعيدة المدى. إذ أدركت لندن أن القطار الصيني إنطلق ولم يعد أحد قادرا على إيقافه. فكلّ من يقف على سكّته سيكون عرضة للتحطيم. طبيعي أن يفضل البريطاني الجلوس بين ركابه على الجلوس في طريقه.
بريطانيا قررّت أيضا إصدار سندات خزينة في تشرين الأول/ اكتوبر المقبل بالعملة الصينية، الرنمنبي (الوان) لكي تحافظ لندن على مركزها المالي المحوري بالعملة الصينية الصاعدة، تماما كما تعاملت مع اليورو منذ ظهوره عام ١٩٩٩ وإن عزفت عن الإنظمام إلى العملة الأوروبية الموحدة. وهي تستفيد من كل الظواهر الإقتصادية الصاعدة ولا تقف في وجه العواصف، بل تتبع رياحها. حنكة مالية خبرتها من خلال تاريخ طويل من الحروب والصدامات المكلفة. فالبريطانيون ربحوا الحرب ضد فرنسا في معركة ووترلوا بقيادة نابوليون، لكنهم خسروها مع ناثان روثشيلد في نفس العام أي ١٨١٣ عندما إستحوذ الأخير على معظم سندات الدين البريطانية وسيطر على بنك إنكلترا المركزي.
حدث ذلك بخديعة ماكرة حيث روّج أن فرنسا هي التي ربحت الحرب، فاشترى روثشيلد السندات البريطانية بأبخس الأثمان. بعدها أصبحت عائلة روثشيلد شريكة لحكومة الملكة فيكتوريا في القرارات المالية والسياسية.
وبانضمام بريطانيا إلى مشاريع الصين المالية تكون الصين قد أحرزت أكبر إنتصار على طريق تقويض الهيمنة الأميركية على العالم. وهي تسعى إلى إنشاء عدة مؤسسات مالية، وهي: بنك التنمية الجديد (بنك بريكس) ليحلّ محل البنك الدولي ومحل صندوق النقد الدولي، وبنك منظمة شنغهاي للتنمية، فضلا عن بنك الإستثمار الآسيوي في البنى التحتية لكي يحل محل بنك التنمية الآسيوي.
ويبقى السؤال أين سيكون موقع المال العربي في هذه المعادلة؟ هل يفك إرتباطه بنظام بات موضع شك حتى من قبل الحليف الأول للولايات المتحدة؟
المصدر: االميادين