انقلاب سحر الحرب الالكترونية على الساحر الأميركي

التجسس على خصوصية الآخر، رغم بشاعته، أضحى أمراً شبه متعارف عليه بين الدول، بشكل خاص، ولا تخضع آلياته لأية اعتبارات، لا سيما بعد انكشاف المديات غير المسبوقة في التاريخ التي تطبقها الولايات المتحدة وأجهزتها الأمنية المتعددة على كافة سكان الكرة الأرضية، ومن ضمنهم مواطنيها ومسؤوليها الأميركيين.
  • تحرك الإدارة الأميركية أتى بعد انقضاء 4 أشهر على اكتشاف الاختراق
تعرضت مطلع الشهر الجاري السجلات الأميركية الخاصة بموظفي الدولة الرسميين إلى عملية اختراق إلكتروني، تجسس بلغة العصر، عمدت الحكومة إلى التحكم بتداعياتها، تنفيها مرة وتقر جزئياً ببعضها مرة أخرى، وخرج الرئيس اوباما في نهاية المطاف رسمياً ليضع حداً للجدل وإقرار الحادثة بشكل واسع في مكتب إدارة شؤون الموظفيين الحكوميين، الذي يحتفظ ببيانات خاصة للموارد البشرية تعود لنحو 4 مليون موظف ومسؤول في الحكومة الفيدرالية، يعود تاريخها لعقد من الزمن.

أوضحت يومية "واشنطن بوست" في 12 حزيران، حجم الاختراق الهائل بالقول إن قاعدة البيانات "ربما تحتوي على ملفات لبعض موظفي وكالة الاستخبارات المركزية، ومعلومات شخصية تتعلق بالمعاملات المالية وبيانات الاستثمار الخاصة، وبيانات عوائلهم ومعارفهم من الأجانب وهوية الجيران والأصدقاء".

أيضاً، وكالة "اسوشييتدبرس" للأنباء علقت بالقول إن ما تضمنته تلك البيانات "معلومات حساسة وفرها أعضاء في أجهزة المخابرات والجيش (القوات المسلحة) تتعلق بخلفية متقدمي الطلب للحصول على موافقات أمنية – بدرجات سرية مختلفة – بحيث يمكن أن تجعلهم عرضة للابتزاز".

اكتشاف الاختراق تم بطريق الصدفة عند قيام شركة "ساي تيك" بعرض برنامج ترويجي لخدماتها الأمنية لمكتب شؤون الموظفين عينه، "واكتشفت برنامجاً خبيثاً (فايروس) يختبىء في جنبات نظمها وشبكاتها الداخلية، والذي ربما مضى عليه عام أو أكثر".

رئيس الاتحاد الأميركي لموظفي الدولة ديفيد كوكس، أعرب في كتاب وجهه لمكتب إدارة شؤون الموظفين عن عظيم قلقه وأقرانه من فشل الجهاز الحكومي الرئيس المخول بحماية البيانات الخاصة من السرقة والقرصنة، وقال "نحن على اعتقاد بأن القراصنة استولوا على بيانات حيوية لكل من تعرض لها، لاسيما رقم الضمان الاجتماعي، السجلات العسكرية وأوضاع المحاربين القدامى، عناوين سكناهم، تاريخ ولادتهم، مرتبة العمل وسلم الرواتب، سجلات الضمان الصحي والتأـمين على الحياة والمعاشات التقاعدية؛ السن، النوع، الجنس، المكانة النقابية، وأمور أخرى. بل الاسوأ اعتقادنا بأن أرقام الضمان الاجتماعي لم يتم تشفيرها، إنه خلل فاضح للأمن الالكتروني ولا يمكن تبريره على الإطلاق".

تحرك الإدارة وأجهزتها رسمياً لم يأتِ إلا بعد انقضاء 4 أشهر على اكتشاف الصدفة المذكورة، بيد أنها سارعت لقطف الثمار بإعلان مسؤوليتها عن الاكتشاف، وأوضحت وزارة الأمن الداخلي أن برنامجاً خاصاً بها له الفضل في تعقب واكتشاف البرامج الضارة، الفايروسات، يطلق عليه "برنامج آينستاين".

وأشارت مصادر علمية إلى أن طواقم مكتب شؤون الموظفين لم يتضمن فريق عمل مختص بالحماية الأمنية للأجهزة الالكترونية إلا بعد عام 2013.


مسؤولية الصين مبهمة

  • المدير السابق لوكالة الأمن القومي الأميركي اتهم الصين بالمسؤولية عن الاختراق
يعتبر القائد العسكري الصيني، صن تزو، رائد مفهوم التجسس وتكوينه أول شبكة استخباراتية كاملة في العالم، منذ نحو 2500 سنة، في كتابه الشهير "أصول الحرب"، أقدم كتاب عن فن الحرب – ويدرج في مناهج الاكاديميات العسكرية الحديثة.

اعتبار الحرب "فناً" أو منظومة "علمية" لا تزال تشغل الاستراتيجيين في العالم، بيد أن صن تزو وضع أسس علمية لمفاهيم إدارة الحرب "واكتشاف قوانينها الموضوعية" وتصنيفه الجاسوسية إلى مرتبات خمسة، مطالباً بحسن معاملة "العميل الذي أمكن إقناعه بتغيير وجهته، وإغرائه لاستمالة زملاء ورؤساء سابقين..".

تحديد ما جرى بدقة من اختراق جاء على لسان المدير السابق لوكالة الأمن القومي والمدير السابق أيضاً لوكالة الاستخبارات المركزية، مايكل هايدن، قائلاً إنه "اختراق كبير هائل.. البيانات الشخصية تشكل هدفاً مشروعاً لأجهزة الاستخبارات الأجنبية.. شعوري العميق أنه إحراج مربك." (صحيفة "وول ستريت جورنال،" 15 حزيران).

هايدن اتهم وزارة أمن الدولة في الصين بضلوعها في "جمع البيانات الاستخباراتية بوسائل تشبه تلك المتبعة في وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية.

وختم هايدن كلمته أمام حشد اختاره من محرري كبريات الصحف بالقول إن الاختراق "عمل تجسسي شريف. كافة الدول تمارسه بما فيها نحن".

رددت كبريات وسائل الإعلام الأميركية، المطبوعة والمرئية، الاتهامات الرسمية الموجهة للصين عن مسؤوليتها بذلك، الصين ردت عبر بيان صادر عن بعثتها الديبلوماسية في واشنطن "تحذر من توجيه الاتهامات جزافاً دون تبيان الحقائق، مؤكدة تجريم قوانين الصين الجارية لعمليات القرصنة الالكترونية بجميع أشكالها".

في تحديد المسؤولية رسمياً، لوحظ تفادي البيت الأبيض الإشارة إلى مسؤولية الصين، أفراداً أو هيئات حكومية، ربما لاعتقاده أن الدلائل المتوفرة غير قاطعة.

وذهبت يومية "ديفينس نيوز،" 18 حزيران، أبعد من ذلك بالقول إن الإدارة في موقف حرج إن اختارت توجيه التهمة مباشرة، نظراً لأن القواعد وآليات التجسس الالكتروني المعتمدة تضع بيانات موظفي الدولة الفيدرالية في خانة الأهداف المشروعة، وفي عصر الانترنت "تتوفر مجالات تجسس على نطاق واسع لم تكن قائمة إبان الحرب الباردة".

تقدير حجم الضرر

  • لجان الكونغرس أقرت بتعرض 14 مليون أميركي للاختراق الالكتروني
تحرك الكونغرس على عجل للاستماع لشهادات أخصائيين في الأمن الالكتروني والتحقق من حجم البيانات وعمق الاختراق، والتوقف عند كيف ولماذا نجح الاختراق بهذا الحجم الهائل، والذي سبقه سلسلة أخرى من قرصنة لأجهزة هيئات حكومية حساسة.

وخلصت لجانه المختصة للقول إن عدد الأميركيين المتضررين من الحادثة عينها "غير معروف،" ويقدر بأنه قد يصل نحو 14 مليوناً يشمل كافة موظفي الدولة الحاليين، والذين بلغوا سن التقاعد، ونحو مليون فرد من الموظفين الرسميين السابقين.

وكشف النقاب أيضاً عن محاولة قرصنة اضافية، في سياق التحقق من حجم "الاختراق الهائل،" يعتقد أن المسؤولية تعود للصين مرة أخرى، وتحكم القراصنة "بسجلات شخصية حساسة تعود لعناصر في لأجهزة الاستخباراتية والقوات المسلحة سعياً للحصول على تصنيف الموافقة الأمنية،" للمراتب والمواقع المعنية.

وأوضحت وكالة "اسوشيتدبرس" للأنباء، 12 حزيران، أن مسؤولي الدولة يعتقدون أن جهود القرصنة الأخيرة "أسوأ بشكل كبير مما كان يعتقد في البداية."

في التفاصيل، تشترط الأجهزة الأمنية من المنتسب استكمال "النموذج الاعتيادي رقم 86،" الضخم والذي يتطلب معلومات وافية ومفصلة عن تاريخ الشخص منذ بدايته مرحلة الدراسة الابتدائية وكل معارفه واصدقائه واقربائه، واماكن اقاماتهم وبياناتهم المالية؛ فضلا عن الحالة الصحية والنفسية واستهلاك الكحول والمخدرات، وحالات الاعتقال السابقة – من قبل اي جهاز شرطة او مؤسسة فيدرالية – وتفاصيل المرة او المرات التي اعلن فيها الشخص حالة الافلاس، الى ما هنالك من بيانات اضافية. وما ينطبق على الفرد المنتسب ينطبق ايضا على الزوج/ة او "شريك الحياة."

نشرت وكالة "رويترز" للانباء تقريرا العام الماضي يفيد بأن بيانات الضمان الصحي تباع "في السوق السوداء" بثمن بخس لا يتعدى 10 دولارات، وترتفع القيمة لطبيعة الملف وقد تصل نحو 500 دولار. الاستخدامات اليومية لتلك المعلومات المسروقة متعددة بعضها يتسم بالبراءة للحصول على وصفات طبية لشراء الادوية بتنوعاتها المختلفة، والبعض اشد ضررا تشمل تقديم تقارير كاذبة لشركات التأمين الصحي.

بيانات برنامج الرعاية الصحية الشامل، اوباما كير، على مستوى الدولة الفيدرالية وما يعادله على المستويات المحلية في الولايات المختلفة ايضا تعاني من تنامي حالات الخلل التقني مما يجعلها عرضة للقرصنة. واوضح تقرير اعده "مكتب المحاسبة الحكومي،" العام الماضي، انه استطاع تحديد "عدد لا يحصى من الثغرات الأمنية" في البيانات الحكومية، لا تقتصر على تفاصيل الحماية الأمنية البديهية، بل تتضمن غياب اي اجراءات او تدابير بديلة لحوادث الطواريء، وغياب القيود "التقنية لحماية سرية وسلامة وتوفر" البيانات المطلوبة.

تعرض البرنامج المذكور إلى حالة قرصنة وسطو على محتوياته منتصف العام الماضي، وإدخال برنامج ضار في الأجهزة المركزية لم يتم اكتشافه إلا بعد بضعة أسابيع.

وزارة الصحة والصحة العامة، المشرفة على برنامج الرعاية الشامل، لم تشأ الابلاغ عن الفضيحة واحتفظت بها، وبالغت في انكار الحدث عند اكتشاف الأمر. واتخذت من القوانين والاجراءات السارية غطاءاً قانونياً لعدم ابلاغ اصحاب البيانات التي تعرضت للسطو، ورفضت تقديمها ضمانات للابلاغ عن اي اختراقات مقبلة.

تقارير تحقيقات المفتش العام للدولة كانت قاسية نحو اداء مكتب شؤون الموظفين بشكل خاص واتهمه بالمعاناة من "ضعف بنيوي في هياكل التحكم الداخلية .. وعجز كبير" في الادارة وصيانة الموار، كما أصدر المفتش العام تحذيرات متعددة لمختلف أذرع الحكومة يناشدها بذل جهود ملموسة في مجال الأمن الالكتروني.

آفاق تغيير أساليب الأمن الالكتروني

  • أوباما ليس في عجلة من أمره للإقرار بفشل أداء حكومته في ملف التجسس
منذ مطلع العام الجاري وضع الرئيس أوباما مسألة الأمن الالكتروني على رأس سلم اولوياته، في أعقاب قرصنة أجهزة شركة سوني؛ دشنها بإعلان عن جهد مشترك مع الحكومة البريطانية لانشاء "خلية انترنت لمكافحة عمليات القرصنة، التي تشكل إحدى أخطر التحديات التي تواجه الأمن الوطني والاقتصاد في بلدينا."

اتخاذ الاجراءات الأمنية مسألة تدخل في عمق صلاحية السلطة التنفيذية وتوابعها، بينما يسعى الكونغرس لادراج الأمر على جدول مناقشاته واصدار قانون "يجيز مؤقتا" لوكالة الأمن القومي جمع البيانات المتصلة بالاتصالات الهاتفية للاميركيين، يرافقه تبني بند يعزز من مجال المراقبة القضائية لاستخدام الاجهزة الأمنية لتلك المعلومات.

منتصف شهر شباط من العام الجاري حل الرئيس اوباما ضيفا على جامعة ستانفورد العريقة، في ولاية كاليفورنيا، معلنا وثيقة تتعلق بسبل حماية الأمن الالكتروني، مناشدا التعاون الوثيق بين اجهزة الدولة المختصة والقطاع الخاص والمعاهد التعليمية لمواجهة التهديدات المنظورة، سيما وان "الحكومة الفيدرالية غير قادرة بمفردها على مجابهة التهديدات، كما ان القطاع الخاص لا يستطيع المواجهة بمفرده ايضا .." تبعه اعلان وزير الأمن الداخلي، جيه جونسون، 22 نيسان، عن قرب افتتاح مكتب ملحق بالوزارة في كاليفورنيا، وادي السيليكون، لتعزيز الجهود المشتركة مع مراكز التقنية المتطورة.

أعلنت وزارة الدفاع الأميركية تلقائياً عن تبنيها وثيقة "استراتيجية الأمن الالكتروني،" التي تنص على وجوب جاهزية البنتاغون "كي تكون قادرة على استخدام نشاطات الكترونية لتعطيل شبكات القيادة والسيطرة لدى العدو وبنيته التحتية المرتبطة بالجيش وقدراته التسليحية."

في 8 حزيران الجاري أعلن سلاح البر في القوات الأميركية عن "ايقاف مؤقت" لموقعه الالكتروني عقب تمكن مجموعة تدعى "الجيش السوري الالكتروني" السيطرة عليه ووضع رسائل عدة، إحداها قالت "قادتكم يقرون بأنهم يدربون الأشخاص الذين أرسلوهم ليقتلوا في المعارك."

كشف النقاب بعد بضعة أيام، 13 حزيران، عن تعرض فرق التفاوض النووي المختلفة في جنيف، ومقرات اقامتها في ثلاث فنادق، لعمليات تجسس الكترونية من قبل إسرائيل، تحاكي برامج الاختراق السابقة المعدة ضد المنشآت النووية الايرانية.

شركة روسية مختصة بمجال الأمن الالكتروني، كاسبيرسكي، قامت باجراءات التحري والتدقيق. الحكومة الأميركية لم تعلق مباشرة وسعت لطمأنة الوفود كافة بمدى الجدية التي تنظر اليها لسلامة وسرية المفاوضات الجارية على قدم وساق.

على الرغم من الخطوات الحثيثة للبيت الابيض السيطرة على جهود القرصنة، إلا أن تقارير مكتب المفتش العام للدولة الفيدرالية تشير الى استمرار وجود ثغرات بنيوية في السبل المنشودة، لا سيما وأن معظم الاجهزة والادارات المعنية "اخفقت في تطبيق الاصلاحات المطلوبة منذ عام 2013".

يومية "واشنطن بوست،" 7 حزيران، أوضحت أن 23 هيئة من مجموع 24 من الأجهزة الرئيسة أقرت بأن المسائل الأمنية "أضحت تحدياً إدارياً كبيراً" لهياكلها القائمة.

في ذات السياق نقلت يومية "نيويورك تايمز" على لسان مسؤول سابق رفيع المستوى في ادارة الرئيس اوباما ساخرا من "صبر الصين طيلة الفترة الماضية" بينما الاجهزة تشكو من ندرة قدرتها على حماية ما لديها من بيانات حساسة.

خصوم الرئيس اوباما يأخذون عليه عدم حماسه لتطبيق الاصلاحات الأمنية "خشية اضطراره للاستغناء عن خدمات بعض المسؤولين المقربين،" بينما الاجواء الانتخابية بدأت ملبدة بالنسبة لمستقبل الحزب الديموقراطي. البعض الآخر يعتقد ان تلكؤ الرئيس اوباما ربما يعود لخشيته من تحول الموظفين بعد الاقالة الى الكشف عن المزيد من جهود التجسس الجارية "واحراج" الادارة مجددا.

الرئيس اوباما، كما يعتقد، ليس في عجلة من أمره للاقرار بفشل أداء الأجهزة الحكومية المختصة خلال سنوات سبع مضت على ولايته الرئاسية، وما يعرف عن مزاجه الرافض للاعتراف بالأمر. في محصلة الأمر، يستمر الحال على ما هو عليه من غياب لجهود داخلية منسقة على المدى المنظور.

المصدر: مكتب الميادين في واشنطن بالتعاون مع مركز الدراسات الأميركية والعربية